لَوْ أنَّكَ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ بَاطِنِه لَمَا أَحْبَبْتَهُ!!
كم كان يُضلِّلني، وكم كنتُ أبحث فيه جيداً عن سماءٍ تُمطرني مَعرفةً وودّاً، وتمنحُني سنَداً بعدما سقطتْ كلُّ أعمدة الحِكمة التي اتكأتُ عليها في غسق الحياة وهجيرها، وفي تحولاتها وأعاصيرها. فقد انقلب عليَّ، وأخَذَني أخذَ ذئبٍ شرسٍ متلونٍ، لا يُعرَف له طبعٌ مستقرٌّ، ولا هويَّةٌ خاصة، يَبيع نفسَه ويشتريها، وأنتَ معه لا ترى ولا تسمعُ، كأن كِيانه كياناتٌ، تَدفَع بحضورها في كل الاتجاهات، وتَلبس لكل اتجاهٍ قِناعَه اللائق به. فيه اجتمعتْ الأقنعةُ الإلهية والشيطانيةُ، وفي كل ثانية يرتدي قناعاً، ويشرعٌ في اللعب به، لماذا؟! لا شك أن نِيران التمويه والتضليل تتكلَّم فيه، وتُوسوس له:
– لا تتعلَّقْ بأيِّ أحدٍ، فإنك ستكون لا محالة فاشلاً.
ولم أُدرك،منذ صَحبتُه، واتخذتُه ماءً لعُشب أعماقي، ونوراً لكسْحِ أكوامِ الظلامِ عن دربي، أنني قد صحبتُ وعْياً مُضلِّلاً مَرِيداً، يُعمِي النفْسَ عن الحقيقة،والقدمين عن الخطو الأصوب.
صاحبي هذا،وما هو لي بصاحبٍ الآن، كانت طريقةُ وجوده معي تُحوِّلني، وتُحوِّل الآخرين كذلك،إلى مجرَّد أشياءَ، يَستخدمها لتلبية حاجاته الشخصية، يستخلصُ من الغير ما يودُّ دون تقديم مقابلٍ، وإذا لم يتمَّ له ذلك، رماهُ بمكرٍ من فوق قمَّة الركون إليه إلى وهْدة الشقاء والمعاناة، لا يَعرفُ شيئاً اسمُه الصُّحبة، أو الأخُوَّة، أو الإنسانيةُ، فالعلاقات عنده سِلعةٌ، ليس إلَّا، ومَظهرٌ من مظاهر الزهو، فهو إذا مشَى معك في الشارع مثلاً لا يُريد الصحبةَ والتنزه، وإنما يريد الفخرَ بقبعته، أوساعته، أو معطفه، واستجلابَ إعجابِ الآخرين به.
وكثيراً ما أكَلني السؤالُ: كيف يُحَوِّل شخصٌ شخصاً آخرَ إلى شيءٍ، ولا يتزلزلُ فيه شيءٌ؟! وهل سنتعرَّف عليه إذا وقف أمامنا؟ أم أننا سنفقد فرصةَ التواصل الهائلة التي نتُوق إليها بشدة معه؟ فعندما نُخرج إنساناً ما مِن إنسانيته نَكُون قد قتَلنا الجوهرَ الأصليَّ فيه، وقتَلْنا كذلك أنفسَنا بنفْسِ الطريقة.
لا ريب أن هناك شيئا ناقصاً ومفقوداً بيننا، ففي بداية العلاقة لم أنتبه إلى ذلك، كما لم أتَوقَّع أنَّ أحداث الحياة ستنتهي بعلاقتنا إلى ما انتهتْ إليه الآن، فقد كان يبدو لي دوما مَحَطةً نهائيةِ الكمالِ بعينه، أَستندُ على عضده، وأمشي مغمضَ العينين سعيداً به، وسعيداً بي كما كان يُخيَّل لي. فما بيننا من وُدٍّ وتفاهمٍ يتخللُ كل شيء في حياتنا، غير أنَّ مَجاريَ الواقع السرِّيةَ طفَتْ على السطحِ، وانفجرتْ فينا انفجاراً فظيعاً، فرَض نفسَه علينا، فصرتُ أنزعجُ من بعض صفاته، ومن بعض تصرُّفاته، وصارَ هو ينتقدني، ويُملي عليَّ ما يرى أنه يجب علي القيامُ به، فتَحَوَّلْنا إلى وقتين متضادَّين، بعد أن كُنا وقتين متحدين مُتحابَّينِ، واختفتْ منِّي تلك الرعشةُ، وتلك الفرحةُ، اللتان كنتُ أحِسُّ بهما كلما أبصَرتْه عينايَ، وعبَرَ جسدي إلى ضِفته مُرفْرفاً،مُضاءً بالبهجة والشوق، والأمل. فأين اختفى كل هذا؟ أليس من الغباء أن تفترسنا ثعالبُ دواخلنا في لحظةِ غيمٍ، وأن تمحوَ بجرَّةِ لسانٍ ما كُنا قد رفعناهُ بدمنا كصرحٍ للصحبة والصداقة؟!
أصبح واضحاً عندي أن كل شيءٍ قد انتهى، فنظرتُ إليه بمقلتيْ غريبٍ، ولم أستوعبْ ما الذي كنتُ أُعجِبْتُ به فيه،فشدَّني إليه بحَبْلِ المَودَّةِ، فجأةً أضحى غريباً عنِّي، أمَّا هو فإني لأزعُمُ لنفسي أنه ما أحبَّ فِيَّ إلا مَصلحتَهُ، وما صحِب فيَّ إلا حاجتَهُ، ولو تَمظهرَ بغير ذلك، فهو يتنفَّسُ سعادةً كلما خدَعني، واستغلَّني، وأنا أتَنفَّسُ غُربةً أمام نفسي. كلٌّ منا في عينيه ضوءٌ خاصٌّ ينمُّ عمَّا في دخيلته، والضوآن لا يلتقيان، لأن كلا منهما ينبُع من تجربَةٍ مُتباينةٍ لتجربةِ الآخرِ.. تجربةٍ تدلُّ على اختفاءِ شيءٍ حَيَويٍّ منها.
أكيدٌ أن الحياة في قبضةِ صُحبةٍ مزيَّفةٍ، ومودَّةٍ مصطنعةٍ ما هي إلا جَحيمٌ نبتَرِدُ فيه بالوهْمِ، فما نُحبُّه في الآخرين ليس سوى ما تَخَيَّلْناه فيهم، وليس هو على الحقيقة، ولا ندري أن الخيالاتِ ضوءٌ منذور للخُبُوِّ والتلاشي، ورُغم أن الخيال قد يكون كاملاً، إلا أنه ليس الواقعَ بتاتاً، فالواقعُ هو عدوُّ الخيالِ، وقاتلُ الحبِّ المنفلِتِ من ضوابطِ الوعيِ بالحياة المتقلِّبةِ في خِضمٍّ التخيلات.
ولِشِدَّةِ ألمِي من تحول صاحبي المفاجئ، عرَضتُ خيوطَ علاقتي به على أخي الأكبرِ مني تجربةً، ومعرفةً بالحياةِ، فقال لي:
– إن بعض العلاقات قد تكون مُؤْلمة جدّاً، ونكتفي منها،ونشعر أننا، كلما عزمْنا على دخول علاقةٍ جديدة أخرى، لن نحصد سوى مزيد من الخيبة المُرَّة، والوحدة القاسية، والصدمةِ الرَّاجَّةِ، التي هي أشدُّ قسوةً وإيلاماً من السابقة، دون أن نعيَ أننا لم نكُنْ من قبلُ في أية علاقة سليمةٍ على الإطلاق، فكل ما كُنا فيه لم يكنْ غيرَ أَسْرٍ في قَبْوٍ عبِقٍ بالمكْرِ، شيَّدَه الزيفُ باسمِ الحبِّ، فانطلتْ علينا أحابيلُه، واصطادتْنا أوهامُه. فالمودَّةٌ الزائفةُ عنكبوتٌ تقبضُ على ضحاياها غير المرتابين بخيوطٍ غير مرئيةٍ، ثم تَتركُهم فارغين من أي توقٍ إلى الاندماج في الحياةِ مرةً أخرى، عاجزين عن حُبِّ حقيقتها، وعن رؤية الجمال الحقيقي المُحيط بها، وذلك لأنهم لم يعرفوا ما هو الحب، ولم يعرفوا كذلك كيف يستقبلون، بعد الإحباط ،شخصاً آخر، لكَون قلوبهم المحطمة لم يعُد فيها ما يسَعُ قطرَةً من المَودَّةِ. فأنت يا أخي لم تُحبَّهُ إطلاقاً، بل أحببتَ تصوُّراتكَ عنه، وأحلامَكَ التي خُيِّل إليك أنها فيه، ولو أنك عرفتَ حقيقة باطنه لما أحببتَه، ولما اعتبرتَه توأمَ روحك.
– وبمَ تسَمِّي ذلك الانجراف الذي كان يَحمِلني إليه؟!
– إنه توقٌ إلى الانفصال عن الوحدة، والمعاناة، والحيرة، وليس مَحبَّةً خاليةً من شوائب النفعيةِ، ولذا انكسرتَ على صخرتهِ كبيضةِ لقلاقٍ ساقطةٍ من عشٍّ في القِمَّة.
– لقد سَحق أحلامي وحياتي بلا رحمةٍ.
– وما ذا أنت فاعلٌ الآن بعد أن تَبَيَّن لك أمرُه؟
– سأغْسلُ كل نبضةٍ في حياتي منه، وسأشتغلُ إلى أقصى حدٍّ بكشْطِ ما عانيتُ منْ جرَّاء صحبته، ولن أتخلَّى عن السعي في إيجادِ توأمِ روحي الحقيقي، وحينذك سيُصبح كل شيءٍ جميلاً.
– احلمْ.. واحلمْ،ولكن لا تَضَعْ جسدَك في نهْر الحلْم، فيحملَك إلى حيثُ لا نهارَ ولا ليلَ. فالبحثُ عن توأم الروح ليس بحثاً عن شخصٍ ما، بقدرِ ما هو بحث عن التناغمِ مع الوجود، والتوافقِ مع اندفاقات الحياة، وبحثٌ عن شمعةٍ تُبدِّد الهواجسَ النابتةَ في جُدران العتمة.
نهض أخي وأطيافُ ابتسامةٍ تشعُّ على شفتيه،وحمائمُ كلماتٍ تصعدُ من صدري مذبوحةً
(لأن المتون
كذبةٌ كبرى
وأن الظنون
خُدعةٌ أخرى....
هكذا تنضج الأسئلة
لتتسعَ فخاخُ النص،
وربما أنا الوحيد المنهمكُ
بهندسة الفراغ
وربما أنا الأخير،
أفتِّش في رغوة الحزن
عن بسمةٍ راودتني
واختبأَتْ في صدف المرايا
أفكِّر حين تَدهمُني رعشة المعنى
أن أتكاثفَ حدَّ التلاشي
لأندسَّ في حلزون الكلام.)*
يرقص تفكيري كبندول ساعةٍ حائطيةٍ عملاقةٍ من عصرٍ غيرِ ساهرٍ في الذاكرة ،تارةً يُشير إلى توقيتٍ تكُون فيه الصحبةُ المبنية على المحبَّةِ سَراباً، وتارةً إلى توقيتٍ تكُون فيه دواءً وهْميّاً، أي حُمقٍ هذا الذي يُلازمني، ويدفعُني إلى الحُكم على الأمور من منظورِ التعصُّبِ الذاتي، فأقلِّص إمكانياتها، وأزرع فيها هُويَّةً قد يصعبُ عليها التخلُّصُ منها مستقبلاً.
هل حقا توأم روحنا ليس شخصاً آخر خارجَ نفْسِنا، كما قال أخي الأكبر، وإنما هو كامنٌ في أعماقنا كالنار في الشجر، والعطر في الزهر، والنور في الماء، لا يَحْجُبه عنا سوى معاناتنا، وعندما يتمُّ التخلُّص منها سنكتشفُ أن كل شخصٍ قد يكون توأمَ روحنا.
*عمر عنَّاز: خجلا يتعرق البرتقال، ط1، سلسلة (كتاب دبي الثقافية)، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي أكتوبر2009م، ص ص:102،101.