الشاعر محي الدين الحاج عيسى الصفدي
يعد الشاعر والأديب محيي الدين الحاج عيسى الصفدي من روّاد الأدب والتربية في فلسطين.. وشاعر وطني نظم أشعاره في قضايا أمته الوطنية وخاصة وطنه فلسطين، وحذّر فيها من وقوع المأساة قبل سنوات من وقوعها.. ولما وقعت كانت كلماته تحليلاً لما حلّ بفلسطين..
ولد شاعرنا عام 1900م في مدينة صفد، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرستها، والمرحلة الإعدادية في مدرسة عكا، والثانوية في سلطاني دمشق وبيروت.. وانتقل من الصف المنتهي من سلطاني في بيروت إلى الكلية الصلاحية في مدينة القدس في أوائل الحرب العالمية الأولى، فقضى في صفوفها العالية ثلاث سنوات حتى كان الاحتلال البريطاني لفلسطين.
وخلال فترة الحكم البريطاني اشتغل في التعليم مديراً لمدرسة صفد لمدة ثماني سنوات، وخلال عمله في حقل التدريس انتسب لـ «معهد الحقوق الفلسطيني» بالقدس وحصل على شهادة الحقوق.
وفي أعقاب «هبة البراق» التي اشتعلت في فلسطين سنة 1929م نقلته «مديرية المعارف» إلى ثانوية نابلس لانتمائه إلى «جمعية الشبان المسلمين» التي نُسب إليها نشوب الانتفاضة في مدينة صفد ضد اليهود وإحراق قسم كبير من بيوتهم.
وفي نابلس قضى شاعرنا في تدريس اللغة العربية خمس عشرة سنة، وبعدها نقل عام 1946م إلى صفد نائباً لمدير مدرستها الثانوية، ومدرساً لمادة اللغة العربية في ثانوية صفد.
بعد وقوع النكبة سنة 1948م نزح مع عائلته وأولاده إلى سورية حيث استقر به المقام في مدينة حلب الشهباء مدرساً للأدب العربي في ثانوية معاوية ودار المعلمات مدة خمس سنوات، ثم تعاقد مع معهد حلب العلمي وقام بتدريس الأدب العربي فيه مدة سبع سنوات حتى 1961م، حيث أحيل على التقاعد.
وقد كان لنشأته في أسرة علمية وحبه للأدب العربي والمطالعة. دور بارز في تنمية ذوقه الشعري وإقدامه على نظم الشعر منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.
يقول الصفدي: «كان لنشأتي في أسرة علمية، ميلي إلى كثرة المطالعة، وقراءة والقرآن، وحبي لترديد ما كان ينظمه أمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم من قصائد، وممارستي النظر في دواوين الشعراء وخاصة دواوين أبي تمام والبحتري والمتنبي، بالإضافة إلى المعلقات العشر، وبعض شعراء العصر الجاهلي والإسلامي، كل ذلك كان سبباً ـ على ما أعتقد ـ لتنمية ذوقي للشعر، وإقدامي على ممارسته منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، ومن الوفاء الإعتراف بفضل أساتذتي في دمشق وبيروت والقدس الذين كان لهم الأثر الحميد بتشجيعي على ممارسة نظم الشعر والإكثار من المطالعة، وأخص منهم بالذكر الأستاذ المرحوم الشيخ عبد القادر المبارك العلامة واللغوي المعروف، والأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني الكاتب العربي المشهور، والشيخ عبد القادر المغربي الذي كان في المدة الأخيرة عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق».
وقد أحتل شاعرنا مكانة مرموقة بين شعراء فلسطين والعالم العربي، وله قبل النكبة وبعدها جولات موفقة في دنيا القريض، ودارت بينه وبين الملك الأردني الراحل «عبد الله بن الحسين» مطارحات شعرية، وما اقترح الملك الهاشمي على شعراء العربية تشطير قصيدة جاهلية أو إسلامية، إلا وكان شاعرنا في طليعة مشطريها.
وفي حلب دار إقامته ظل الصفدي يذكر فلسطين ونكبتها ويردد طيف ذكراها ويبكي وطناً مغصوباً وشعباً مغلوباً وشرفاً معطوباً، وقد نظم في مأساة العرب الكبرى عشرات القصائد والمعلقات وكلها تفيض تفجعاً وأسى على مسارح غناء، وربوع فيحاء، استباحها الصهاينة، ويرجو لها حرية بعد ذل، وطمأنينة بعد عبودية.
توفي الشاعر محيى الدين الحاج الصفدي في 25 آذار (مارس) عام 1974م، قبل أن تتحقق أمنيته برؤية ديوانه مطبوعاً، كما نوه بذلك ابنه «إياد محي الدين الحاج عيسى» حيث قال بالحرف الواحد في الصفحة التاسعة والعشرين بعد المائة الثالثة: «لقد كانت أمنية والدي، رحمه الله، أن يرى ديوانه مطبوعا، وقد قام بترتيبه، وإعداده لذلك، وكتب مقدمته بنفسه، ولما شرع في طباعته، وخرجت مسودة الملزمة الأولى للوجود، وافته المنية وأسلم الروح إلى بارئها».
منح اسم شاعرنا عام 1990م وسام «القدس للثقافة والفنون» من منظمة التحرير الفلسطينية.
من آثاره الأدبية:
مصرع كليب «مسرحية شعرية»، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1947م. ط2، دار الجليل، دمشق، 1981م. ط3، الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، بيروت، «د.ت». (وقد نظمها عام 1946م في أثناء وجوده في نابلس، وتقرّر تدريسها كمادة إضافية للمطالعة الشعرية في جميع مدارس فلسطين الثانوية، غير أن وقوع النكبة حال دون تنفيذ ذلك القرار).
أسرة شهيد، «مسرحية» دمشق، 1966م. نظمها في حلب سنة 1966م. (وصف فيها ما لاقته أسرة شهيد فلسطين من الآلام والتشرد، الذي كان أنموذجاً لما حلّ بالشعب الفلسطيني خلال هجرته وتفرقه في مختلف البلاد العربية وغيرها).
ديوان من فلسطين واليها، المطبعة السورية، حلب ـ 1975م. «أصدره بعد وفاته ابنه الصيدلي إياد»، (عدد صفحاته 336 صفحة، ويضم 98 قصيدة، ويحتوي على شعره الذي قاله بعد وقوع النكبة، وبعض القصائد التي كان يحفظها قبل النكبة.. أما شعره قبل عام 1948م، فقد ضاع أكثره، لأن ضراوة العصابات الصهيونية وقسوتها في ارتكاب المجازر، جعلتا الشاعر وتحت ضغوط هائلة من الأهل والجيران، يفرّ بعرضه وأولاده ونفسه من مدينة صفد تاركاً كلّ شيء ـ كسائر أبناء صفد وغيرها ـ وكان مما نسيه، ديوان مخطوط، لم يكن يحفظ منه إلا القليل).
قصيدة النكبة الكبرى
واكب الصفدي أحداث القضية الفلسطينية، وعاش معها بأفكاره وأحاسيسه.. ولم يترك حدثاً ولا جانباً من جوانب القضية إلا وترجم فيه أفكاره وأحاسيسه شعراً..
يقول الأديب والشاعر حسني أدهم جرَّار: «الأستاذ محيي الدين شاعر فلسطيني وطني أصيل.. عايش فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين وشاهد جور الاستعمار والصهيونية منذ بدأ الاحتلال عام 1918م حتى وقعت النكبة الكبرى عام 1948م.. ووصف بشعره ما عانته فلسطين السليبة من ظلم وجور ومؤامرات، ووصف ما أعقب ذلك من تشريد ونزوح ما يزيد عن المليون من أهلها العرب.. ثم وصف المآسي والرّزايا من جرّاء العدوان الصهيوني على الدول العربية المجاورة لفلسطين، واحتلال أجزاء من أراضيها عام 1967م».
وقصيدة «النكبة الكبرى» التي نظمها شاعرنا في مدينة حلب بعد هجرته قسراً من بلده عام 1948، ـ كما يرى الأستاذ جرَّار ـ «تمثل شعره خير تمثيل بما فيها من المعاني والأفكار.. وقد استعرض فيها تاريخ اليهود الذين ما توقفوا لحظة عن الكيد لهذه الأمة.. في جاهليتها عندما كانوا يورون نيران العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج. وفي إسلامها عندما ناصبوا نبي هذه الأمة العداء، وتآمروا على الإسلام وعلى النبي مع المشركين والمنافقين في مكة والمدينة، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووأد دعوته في مهدها وإلى الأبد.. فهم لم يعودوا إلى العداوة لهذه الأمة، لأنهم ما تركوها لحظة واحدة، والذي كان يسترها هو ضعفهم وغفلتنا.. ».
ويصف الصفدي في قصيدته «ما كان من أعداء الأمس واليوم والغد.. واعتداءاتهم على ثالث الحرمين، وعلى حيفا وعكا ويافا والرملة وصفد ودير ياسين وسواها.. ووصف حال اللاجئين البائسين الذين كانوا ضحايا الغدر والمؤامرات، والذين أخرجوا من ديارهم وهاموا على وجوههم لينجوا بأرواحهم من أيدي الجزارين.. ».
النكبة الكبرى
طرفٌ أضرَّ بجفنه التسهيدُ | وَحَشاً تعاني قرحةً وتبيدُ |
جُرحٌ يسيلُ ولوعةٌ لا تنطفي | وجوى على مرّ الزمان جديدُ |
قيل، الأُساةُ فأين منهم بلسم | يشفي وأين المنقذُ الموعودُ |
يا شهرَ (مايس) خِلتُ ليلك مؤنساً | فإذا الأماني في نهارك سودُ |
كمْ بتُّ أرقبُ فيكَ همّاً ينجلي | فإذا الرزايا والنحوسُ تزيدُ |
وإذا العجائبُ أيُّ أمرٍ عجيبة | أدهى؟ زعانفةُ الأنامِ تسودُ |
نبذتهُمُ الدنيا فضلَّ سبيلهم | فيها، فسارٍ في الدّجى وشريدُ |
عادوا يحوكونَ العداءَ لأمة | حَدَبتْ عليهمُ والزمانُ حميدُ |
في ثالثِ الحرمينِ رنّةُ ثاكلٍ | وأنينُ مفجوع له ترديدُ |
وطنٌ يضيع فيا قلوبُ تفطَّري | وتجردي للرزءِ فَهُوَ عتيدُ |
وطنٌ تمزَّق قاطنوه وشُرّدوا | فبكل أرضٍ نازحٌ وطريدُ |
وطنٌ يضيع وأمةٌ عبثت بها | أيدي البغاة فعاثَ فيه السِّيدُ |
يا مَنْ شهدتَ رحيلهم يوم النّوى | وجموعهم إثر الجموع تميدُ |
أرأيتَ كيفَ الرُزء يصدع أمةً | والنازلاتُ الصمُّ كيف تعود؟! |
نزحوا وخَلّوا جازعينَ ديارَهم | ولهم هنالك مُطرفٌ وتليد |
قد حازها أعداؤهم وتجردوا | منها كما يتجرّدُ العنقود |
من لم يُبارِ الحادثاتِ بعدّةٍ | لم يُجدهِ يوم الكفاحِ عديدُ |
******
(حيفا) ولا أدري بروعكَ يومُها | أم يومُ عكا الأَسْوَدُ المنكود؟ |
أم يومُ (يافا) والعدوُّ يدكّها | أم يومُ (سلمةَ) والمنايا سود |
أم (ديرُ ياسينٍ) وقد طافَ الردى | فيها وأفنى أهلَها التشريدُ |
أم (رملة) الصيدِ الكرامِ أميةٍ | هُتِكتْ ولم يحفظْ حماهم صيد |
و"قرى" كجنات الخلود بحسنها | دَرَست وحلَّ بأهلها التبديدُ |
(بلدُ المسيحِ) تدنَّستْ حرماتُه | والسَّلْمُ في أرجائهِ مفقودُ |
والشرُّ أنزل ركبَه في بقعةٍ | عند البحيرةِ نورُها مشهود |
حملتْ حمائمها السلامَ مباركاً | لو كان يصغي للسلامِ رشيد |
"صفد" وقد عانيتُ هولَ مصابها | صُرعت وفارقها الحُماةُ الصيدُ |
ذادوا وكم ذاقَ العدوّ بلاءَهم | مُراً وحسبُكَ بالليوثِ تذودُ |
حتى أتى القدَرُ العجيبُ وهنا هنا | دعني فلا أبدي الأسى وأعيدُ |
هي معقلٌ دكَّ العدوّ حصونَه | غدراً وكان لغدره تمهيدُ |
ثارَ الرصاصُ وجُنَّ مقتحمُ الوغى | وصدى المدافعِ صيحةٌ ووعيدُ |
فالأرضُ يُعفَرُ بالقذائفِ وجهُها | والجوّ فيه لهولها ترديدُ |
والليلُ داجٍ والرياحُ عواصفٌ | وبلاءُ ربك بعدَ ذاكَ شديدُ |
مطرٌ طغتْ فوقَ الطريقِ سيولُه | أينَ الطريقُ ورسمه المعهود |
هذا هو الوادي (1) وتلك صخوره | برزتْ وذاك طريقُه المنشودُ |
كيف المسيرُ وكل شبرٍ مزلقٌ | منه وكل حفيرةٍ أخدودُ؟ |
لم يبقَ من بين المسالكِ غيرُه | سدَّتْ وصار لغيرنا الإقليدُ |
ساروا وهم يتلمسون رسومَه | يتعثّرونَ ورشدهم مفقود |
يتلفّتون مودّعينَ فثاكلٌ | تبكي وشيخ ذاهلٌ ووليدُ |
كم مرضعٍ ناءتْ بحمل رضيعها | تسعى لتنجو والنجاءُ بعيد |
وأشاوسٍ صمدوا لكراتِ العدى | كم خرَّ منهم أروعٌ صنديدُ |
جثمانه للطير أصبح مطعماً | أو للسباع ولا يُعابُ شهيد |
لمن يبقَ من يُلقي عليه ترابه | رحل الجميعُ وقلبُهم مكمود |
*******
يتساءلون: وأينَ بعدُ المبتغى | قيل: الحدودُ وظلُّها المقصود |
ربضَتْ بنو الأعمام في أكنافها | غيلٌ رعته من الكرامِ أسود |
إخواننا في كل خطبٍ داهم | ما بيننا في النائبات حدود |
هرعوا لنصرتنا وآسوا جرحنا | ليت الجراحَ أزالها التضميدُ |
أبناء "سوريا" ومفخر يَعربٍ | طبتم وطابَ نداكُم المحمود |
أسديتمو فوق الذي تبغي العُلا | وبذلتمو ما يرتضيه الجودُ |
أنا إنْ شكرتُ فشاعرٌ لقي الرضا | وإذا شكوتُ فموجعٌ مفقود |
حسبي أسىً سيفُ العدو مجرّدٌ | فوق الرؤوس وسيفنا مغمودُ |
وجناحنا قد قُصَّ من أطرافه | متقاصراً وجناحُهُ ممدودُ |
شرٌ أرادته السياسة فهو في | أهوائها نارٌ لها ووقود |
إنْ لم تُحِذّ من الأصول غراسُهُ | ورِثَ الشقاءَ عن الحفيدِ حفيدُ |
ما خطبُ أندلسٍ ولا ويلاتها | أدهى فشرّ الحادثات تعود |
هذي فلسطين الشهيدةُ مُزّقتْ | من بعد ما حزَّ الوريدَ حديدُ |
يا تربةَ الأجدادِ حظّك عاثرٌ | لم تغنِ عنك من البلاء جدود |
سلفٌ كرامٌ قد تداولَ إرثَهم | خلفٌ أضاعوه غداةَ أُبيدوا |
– الوادي: هو المعروف بوادي الطواحين، الواقع في غرب مدينة صفد، ويبدأ من نبع قرية ميرون، ويسير بمحاذاة جبال «الجرمق» وترفده في طريقه روافد كثرية من الينابيع حتى ينتهي إلى بحيرة طبرية وكانت تدار بمائه أكثر من ثلاثين طاحونة يقصدها أهالي صفد، وأهل القرى المجاورة لطحن حبوبهم وقد قل عدد هذه الطواحين بسبب وجود الآلات الحديثة، وعلى جانبي غدير هذا الوادي نجد البساتين الكثيرة ذات الأشجار المختلفة من الفواكه وغيرها.
أهم المصادر والمراجع:
- الأدب العربي المعاصر في فلسطين، (1860م - 1960م)، د.كامل السوافيري، دار المعارف، القاهرة، طبعة 1987م.
- حياة الأدب الفلسطيني الحديث «من أول النّهضة ... وحتى النكبة»، د. عبد الرحمن ياغي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ـ 1981م.
- شعراء فلسطين في القرن العشرين ـ «توثيق أنطولوجي»، راضي صدوق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000م.
- معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، النسخة الالكترونية: [www.almoajam.org].
- من أعلام الفكر والأدب في فلسطين، يعقوب العودات (البدوي الملثم)، الطبعة الأولى، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1976م.
- الموسوعة الفلسطينية ،(القسم الأول _ 4 مجلّدات)، المجلد الرابع، أحمد مرعشلي وعبد الهادي هاشم وأنيس صايغ، إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق، 1984م.
- موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، أحمد عمر شاهين، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، 1992م.