الشّرقُ في مهبِّ الرّيحِ في فكرِ ميخائيل نعيمة
مقدّمة:
قدّمْتُ في دراسةٍ سابقةٍ بحثاً بعنوانِ (الحربُ والسّلمُ في فكرِ نعيمةَ)، وقد تناولْتُ فيهِ رؤيةَ نعيمةَ لمفهومِ السّلمِ والحربِ كما تراءَى له في زمنِه، وقد عبَّرَ عن نقدِه اللّاذعِ لأممِ العالمِ وهي تتنافسُ في ميزانِ القِوى، وللغربِ وهو يتسابقُ إلى إحرازِ قصبِ السَّبقِ في ميدانِ التَّسلُّحِ؛ لتحقيقِ التّوازنِ مع العدوِّ للحفاظِ على السِّلمِ، فانقسمَ على نفسِه إلى معسكرينِ مُتصارعينِ.
لكنَّني أقفُ هُنا على بسْطِ آرائِه وتحليلِها فيمَا يتعلَّقُ بتأثيرِ دعواتِ الغربِ على المَشرقِ العربيِّ الّذي اندفعَ وهو في حضيضِ خنوعِه وضعفِه وذلِّهِ إلى التَّغنّي بأمجادِ الماضِي تعويضاً عن النَّقصِ في حاضرِه، وراحَ يُجنِّدُ أبناءَه للحربِ، وأبناؤُه لا يَجِدُون المأكلَ والملبسَ والمسكنَ والكرامةَ والعدالةَ والحرّيّةَ!
العالمُ بينَ معسكرينِ مُتصارِعين:
وقد رأيْنا فيمَا سبقَ اهتمامَ الغربِ بالعقلِ الّذي مهّدَ لهُ فتوحاتِه العقليّةَ الّتي زادَت في ثروتِه الماديّةِ مقاديرَ لا تُحْصى ولا تُعَدُّ، وبسطَتْ سلطانَه على الأرضِ من القُطبِ إلى القُطبِ ومن المَشرقِ إلى المَغربِ، حتّى باتَ صاحبَ الحقِّ بتلكَ الثّروةِ وذلكَ السُّلطانِ. ولكنّهُ ما لبثَ أنِ انقسمَ إلى معسكرينِ يتنازعانِ ثروةَ الأرضِ وسلطانَها ويتستَّرانِ في نزاعهِما باسمِ العدالةِ تارةً، وباسمِ الحريّةِ تارةً أخْرى. ثمّ راحَ كلٌّ منهُما يتسابقُ ليلَ نهارَ على كسْبِ الأنصارِ والأمصارِ، تارةً بالقوّةِ، وتارةً بالمالِ، وتارةً بالدَّعاواتِ الطّنَّانةِ الّتي تنفذُ إلى القلبِ والعقلِ.
ومضَى إلى أهدافِه بإنتاجِ العتادِ الحربيِّ بكلِّ أصنافِه، وراحَ يتفنَّنُ في تشييدِ الحصونِ، وتدريبِ الجيوشِ، وتصميمِ الخططِ، وتنظيمِ القياداتِ، وعقدِ المُحالفاتِ، والتَّبجُّحِ بالفضيلةِ، والتَّغنّي بالسّلمِ، وكلُّ ذلكَ يَجري بشكلٍ حثيثٍ في السّرِّ والعلانيةِ، وبغيرِ انقطاعٍ.
آثارُ دعواتِ الغربِ على العربِ:
وتمتدُّ دعواتُ الغربِ في التّضليلِ من خلالِ التَّغنّي بالسّلمِ والتَّبجُّحِ بالقوّةِ إلى معظمِ دولِ العالمِ ودويلاتِه وفي جملتِها دويلاتُ شرقِنا العربيّ، فتَمضي على خُطا الغربِ في التَّمرُّسِ بفنونِ النّباحِ والنّطاحِ، والقَدحِ والذَّمّ، والتَّضليلِ والتَّدجيلِ، والتَّغنّي بالحقِّ، والتَّبجّحِ بالقوّةِ.
فيستغربُ نعيمةُ كيف سَطَا سِحرُ الغربِ على المشرقِ العربيّ بأراجيفِه في دعاواتِه ومُهاتراتِه حتّى باتَ يعتقِدُ أنّ قوّةَ الأممِ في حناجِرِها، فلا يَشبعُ من التَّحدّثِ عن تعشُّقِه للاستقلالِ والحرّيّةِ، وعن تفانيهِ في سبيلِ الكرامةِ القوميّةِ، وعنِ الشّهامةِ اليعربيّةِ، والكبرياءِ الشّرقيّةِ، وعن أمجادِ أسلافِه وجليلِ ما قدَّمُوهُ من الأقوالِ والأعمالِ للحضارةِ البشريّةِ.
وينتقدُ نعيمةُ انجرافَ الجميعِ في تیّارٍ هائلٍ منَ التَّبجُّحِ بالماضي، كأنّ التّبجُّح بما كان، يُغيّرُ ما هو كائنٌ. ويشبِّهُ هذهِ الحالةَ برجلٍ كسيحٍ يستطيعُ أن يستَغنيَ عن عكّازِه إذا هو ردَّدَ على مسامعِ النّاسِ بغيرِ انقطاعٍ أنّ أباهُ أو جدَّهُ كان أميرَ الفوارسِ وسيّدَ الميدانِ.
لكنّ نعيمةَ الّذي لم تَعرفْ ريشتُه المُهادنةَ والنِّفاقَ في مواقفِه الشُّجاعةِ من كلِّ القضَايا الإنسانيَّةِ والعربيّةِ يُبيّنُ لنا ما في أمجادِنا من صفحَاتٍ مشرقةٍ، وما تُقابلُها من مجلَّداتٍ سُودٍ، فليس منَ الصِّدقِ والشَّجاعةِ أن نتبجَّحَ بالصَّفحاتِ البيضاءِ المشرقةِ ونغُضَّ الطّرفَ عن مجلّداتِنا السّوداءِ: "لئنْ كانتْ لنا في حافظةِ الزّمانِ السَّحيقِ صفحاتٌ مشرقاتٌ بالعدلِ والبطولةِ والنُّبلِ والإباءِ والإيمانِ بقدسيّةِ الحياةِ وجمالِ منبعِها الإلهيِّ، فإنّ لنا بجانبِها مجلّداتٍ سوداً تنضَحُ بالظُّلمِ والجبنِ والخساسةِ والذُّلِّ والكفرِ بالحياةِ وربِّ الحياةِ".
ويُشبّهُ فعلَنا بالتّغنّي بالصّفحاتِ المشرقاتِ دون النَّظرِ إلى صفحاتِنا السَّوداءِ بمَن يسترُ عُريَهُ بثوبٍ مستعارٍ، أو بمَن يُداوي الرَّمدَ بذرِّ رمادٍ في العينِ، والسَّرطانَ بجرعةٍ من الأفيونِ. فمِن شأنِ تَغنّينا بماضيْنا أن يصرِفَ همَّنا عن خِزيٍ فينا إلى مجْدٍ ليس لنا.
وتتدفّقُ الحكمةُ والشّجاعةُ في أنصعِ وأصدقِ صورِها، حينَما يؤكّدُ أنّ انتسابَه إلى عروبتِه لا يَزيدُه شرفاً إن كانَ في ضَعةٍ وخسَاسةٍ، كمَا أنّ خِزيَ العروبةِ لا يحطُّ من شرفِه إن كانَ شريفاً، فالإنسانُ إمّا أن يسمُوَ أو ينحطَّ بسيرتِه وسريرتِه وأقوالِه وأفعالِه لا بنَسبِه إلى العربِ: "إنّني رجلٌ عربيٌّ ومن صميمِ الأَرومةِ العربيّةِ. ولكنَّني لستُ أرَى في انتِسابي إلى العربِ ما يرفعُني فوقَ غيريْ منَ النّاسِ ولا ما يَحطُّنِي دونَ غيْري.. فلا شرفُ العربِ يشرّفُني إن كنتُ خسِيساً. ولا خزيُهُم يُخْزيني إن كنْتُ شريفاً. بل تُشرّفُني سيرتِي وسريرَتي، وتُخْزيني أقوالِي وأفْعالي. وعليَّ، إذ أنا أخلَصْتُ الحُبَّ للعربِ، أن أشرّفَهم بما أقولُ وأفعلُ بدلاً مِن أن أتشرَّفَ بما قالُوهُ وفعلُوهُ".
العربُ قولٌ بلا فعلٍ:
وهُنا يتبرَّمُ نعيمةُ بالعروبةِ - بالرّغمِ من رحابةِ صدرِه - لِما يَراهُ من تناقضٍ بينَ القولِ والفعلِ وبينَ الكلمةِ والموقفِ، إذْ هُم يقولُون غيرَ ما يَشعرُون، ويَشعرُون غيرَ ما يقُولُون، ثمّ يفعلُونَ غيرَ ما يقولُون ويشعرُون: "فبيْنا ألسنتُهم تُنشِدُ أعذبَ الشّعرِ في الحريّةِ والكرامةِ الإنسانيّةِ تراهُم مكّنُوا في قلوبِهم للذّلِّ والعبوديّةِ. فهُم يَزحفُون على بطونِهم ويُعفّرُون جِباهَهُم أمامَ ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ، وهُم يتَجبَّرون على من دونَهم ويتكبَّرون". وبذلكَ يراهُم في مُنْتهی الذّلِّ والهَوانِ اللّذينِ تفشَّيا في الجسمِ العربيِّ تفشّيَ السَّرطانِ، وهو السّرطانُ الّذي لا تنْجعُ في استئصالِه تعاويذُ الدّعاواتِ ولا الثّرثرةُ عن أمجادِ السّلفِ.
معجزةُ العربِ الحقيقيَّةُ:
يرى نعيمةُ أنّ تغنّيَ العربِ بأمجادِ السّلفِ وبطولاتِهم لا يُمكنُ أن يبعثَ هممَهم الّتي تراخَت، وأن يجمعَ كلمتَهم الّتي تشتّتَت، وأن يُعِزَّ نفوسَهم الّتي رانَ عليْها الذُّلُّ والهوانُ!
فأمجادُ العربِ الّتي خفقَتْ فيها الأعلامُ العربيّةُ في سالفِ الأزمانِ من حدودِ السِّندِ حتّى حدودِ الغالِ، وقد تجلَّتْ في سيوفِ خالدِ بنِ الوليد، وعمرو بنِ العاصِ، وطارقِ بن زیادٍ، ما هيَ إلّا رغوةٌ أثارَها العربُ في اندفاعِهم من قلبِ الجزيرةِ شمالاً وشرقاً وغرباً، ولكنّها ليسَت المعجزةَ الّتي جاءَ بها العربُ، والتَّغنّي بها لا ينفعُ العربَ ولا العالمَ في شيءٍ.
لكنّ معجزةَ العربِ الكُبرى هيَ في القرآنِ، وهي وحدَها الّتي تستطيعُ أن تجعلَ من العربِ قوّةً عظيمةً في رأيِ نعيمةَ: "أينَ منْها قوّةُ الأساطيلِ البحريّةِ والجوّيّةِ والقنابلِ الجهنَّميّةِ، وأينَ منها قوّةُ المالِ والرّجالِ. فالأساطيلُ للصّدأ، والرّجالُ للموتِ، والمالُ للزّوالِ. أمّا معجزةُ القرآنِ فلِلبقاءِ".
ونعيمةٌ لا يُلقي بالأحكامِ جزافاً، دونَ أن يُبرهِنَ على صحّةِ أقوالِه بالمنطقِ وقوّةِ الحُجّةِ، على نقيضِ مَن يُتوّجُون رؤوسَهم بالعمائمِ، ويُزخرفُون جهلَهم باللِّحَى، فنراهُ يأتي بالبراهينِ العقليَّةِ دامغةً تُزيلُ سحُبَ المتشكّكينَ، وتجلُو صدأَ عقولِ الآسنينَ الّذينَ لا يرونَ النُّورَ إلّا مِن ثقبِ إبرةٍ حفرَتْهُ في أدمغتِهم ضحالةُ الفكْرِ وجهالةُ البيئةِ الّتي يعيشُونَ فيها، فيَرى أنّ القرآنَ بإعجازِه أقامَ للعربِ ولغيرِهم "هدفاً من حياتِهم، وكانُوا بغيرِ هدفٍ، واختطّ لهُم طريقةً إلى الهدفِ، وكانُوا بغيرِ طريقٍ. وما اكتفَى بأنْ أقامَ لهُم هدفاً واختطّ لهُم طريقاً، بلْ إنّه برهنَ لهُم بحياةِ النّبيِّ وصحبِه أنّ ذلكَ الهدفَ مستطاعٌ بلوغُه على مَن سارَ في الطّريقِ. فحياةُ النّبيِّ وخلفائِه الأوّلينَ مليئةٌ بالعِبرِ الّتي تَهدي النّاسَ سواءَ السَّبيلِ فلا تتركُهم ريشةً في مهبِّ الرّيحِ.".
وهذهِ المعجزةُ ما كانتْ لتكونَ لو لمْ يُترجِمِ النّبيُّ وصحبُه القرآنَ إلى أفعالٍ. ولكنَّهم، وقد امتلأَتْ قلوبُهم وعقولُهم إيماناً، ما تردَّدُوا في ترجمةِ إيمانِهم إلى أعمالٍ وأقوالٍ تتوافقُ كلَّ التَّوافقِ مع ذلكَ الإيمانِ. ويأتي نعيمةُ بالدَّليلِ القاطعِ على ذلكَ بروايةِ قصّةٍ من الأخبارِ النَّبويّةِ هي خبرُ شاةٍ ذبَحها أهلُ البيتِ في غيابِ النّبيّ وفرّقُوها على المحتاجينَ. وحينَما عادُ النّبيُّ أخبرتْهُ عائشةُ بما كانَ، وأضافَت أنّهم لم يُبقُوا لأنفسِهم منَ الشّاةِ إلّا الكتِفَ. فكان جوابُ النَّبيّ لها: "لقد بقيَتْ كلُّها إلّا الكتفُ. إنّهُ لجوابٌ حوَى من البساطةِ والبلاغةِ والحكمةِ ما لمْ تحْوِه مجلّداتٌ من الفلسفةِ: بقيَت كلُّها إلّا الكتفُ. ومعنَى ذلكَ أنّنا نكسبُ ما نُعطيهِ ونخسرُ ما نُمسِكُه. فالّذي ننفقُه على الغيرِ من أموالِنا وقلوبِنا وأفكارِنا وأرواحِنا يُحسَبُ لنا. والّذي نُنفقُه على أنفسِنا يُحسَبُ عليْنا. فنحنُ مُطالَبون بسِوانا قبلَ أن نُطالَبَ بأنفسِنا. ونحنُ، وكلُّنا عيالٌ على اللهِ، لا نستحقُّ نعمةً من نعمِ اللهِ إلّا إذا أبحْناها من صميمِ القلبِ لغيرِنا من عيالِ اللهِ".
ويختتمُ نعيمةُ القصّةَ - بعدَ بسطِ أبعادِها الدّينيّةِ والإنسانيّةِ العظيمةِ - بسؤالٍ يعبّرُ عن إيمانِه المُطلقِ بعظمةِ هديِ النّبيِّ محمَّدٍ - عليهِ وعلى جميعِ الأنبياءِ الصّلاةُ والسّلامُ - بقولِه: "فهلْ مَن يَدلُّني بعدَ ذلكَ على طريقٍ إلى الإخاءِ والسِّلمِ والتَّعاونِ بينَ النّاسِ، وبالتّالي إلى الحرّيَّةِ، أقربَ مِن هذا الطّريقِ وأقْومَ؟"
ونعيمةُ مفكّرٌ حرٌّ شجاعٌ ينطقُ بالحقيقةِ، ولو كانَت على حدِّ السّيفِ، دونَ حسابِ المتقوقعِينَ مِن حولِه ممّن لا تَروقُ لهُم أنوارُ أفكارِه الّتي تتعارضُ معَ ظلماتِ جهلِهم الموروثِ في شتّى البيئاتِ العَقديّةِ، فيُعيدُ تأكيدَ الحقيقةِ بكلِّ حزمٍ: "أجلْ. إنّ معجزةَ العربِ في القرآنِ".
لكنّ المؤمنينَ بالقرآنِ من العربِ قد أغلقُوا قلوبُهم عن هذهِ المعجزةِ، حينَما أكثرُوا من تلاوتِها بالشّفاهِ، وسماعِها بالآذانِ، وتقديسِها بالزّينةِ والزّخرفةِ، فاهتمّوا بالقشورِ وأسقطُوا جوهرَ الرّسالةِ، وأهملُوا أسرارَ العظمةِ في تنفيذِ تعاليمِها، حينَما حكّمُوا دنياهُم في دينِهم، فغابتِ المعجزةُ خلفَ ظلماتِ أخلاقِهم وبراقعِ قشورِهم وإيمانِهم بسفاسفِ الحياةِ الّتي انهالتْ عليهِم من الغربِ: "فهُم اليومَ يُؤمنونَ بالرّاديُو والرّادارِ، وبالدبّابةِ والطّيّارةِ، وبالدّعاواتِ والمُخرّقاتِ، ثمّ بالفلسِ الّذي يبْتاعُ كلَّ هذهِ - يُؤمنونَ بها كمَا لو كانتِ المفاتيحَ إلى الرّاحةِ والهناءِ والسّلامِ والحرّيّةِ والكرامةِ الإنسانيّةِ. أمّا المفتاحُ الّذي أُعطِيَ لهُم في القرآنِ فجَوهرةٌ يتبرّكُون بلثمِها، ويُباهُون بجمالِها، ولكنَّهم يتهرَّبُون من استعمالِها. فكأنَّها للزّينةِ لا لفتحِ الأبوابِ المُغلقةِ، وفكِّ المشاكلِ المُستعْصيةِ؛ أو كأنّها للتّسليةِ والتّرفيهِ عنِ النّفسِ عندَما تملُّ النّفسُ العملَ في معاملِ الفلسِ والدّينارِ، أو عندَما يأخذُها شيءٌ من الكللِ".
حالُ المسيحيّينَ كحالِ المسلمينَ:
وقلمُ نعيمةَ الّذي سلّطَ الضّوءَ على حقيقةِ معجزةِ القرآنِ، وأماطَ اللّثامَ عن القلوبِ المُقفلةِ عن وصاياهُ، يمتدُّ بنورِه إلى الإنجيلِ والمؤمنينَ به؛ ليُزيلَ البراقعَ عمّا لحقَ بهِم من انحرافٍ عن السّراطِ المستقيمِ الّذي من أجلِه نزلَت تعاليمُ المسيحِ عليهِ السّلامُ، فيُشبِّهُ حالَ المسيحيّينَ معَ الإنجيلِ بحالِ المسلمينَ معَ القرآنِ، وكذلكَ حالُ باقي المذاهبِ معَ ما عندَها من كتبٍ دينيَّةٍ.
فالمسيحيّونَ الّذينَ عاشُوا خلالَ ثلاثةِ قرونٍ أقلّيّةً متآخيةً، مُتضامنةً على السّرّاءِ والضّرّاءِ، متمسِّكةً بالسّلمِ، مُنكِرةً على السَّيفِ أن يكونَ حكَماً بينَ النّاسِ، ومُضطَّهدةً لذلكَ من ذوي السُّلطانِ في الأرضِ، عادتْ في عهدِ الإمبراطورِ قِسطَنطين الكبيرِ فباعَت إنجيلَها بصكٍّ يحميْها من الاضطِهادِ، ويضمنُ لها أنْ تصبحَ دينَ الدّولةِ الرّسميِّ إذا هيَ أمرَت أتباعَها بالقتالِ تحتَ رايةِ الدّولةِ؛ وبذلكَ تنازلَت عن تعاليمِ مؤسِّسِها، حيثُ يقولُ: "أحِبُّوا أعداءَكم. بارِكُوا لاعِنيكم. أحسِنوا إلى الّذينَ يُسيئونَ إليكُم".
وتتوالَى مشاعلُ النّورِ شُهباً في فضاءِ فكرِ نُعيمةَ، وتتدفَّقُ ملاحمُ كلماتِه شجاعةً؛ لتُبيِّنَ جواهرَ الحقيقةِ في تعاليمِ الإنجيلِ، وما حلَّ بها من تشويهٍ وتحريفٍ وتزييفٍ، قائلاً: "وهكَذا مشَى المسيحيُّونَ في جيوشِ أكبرِ دولةٍ مستعمِرةٍ عرفَها التّاريخُ القديمُ. فجعلُوا من مسيحِهم إمبراطُوراً وهو القائلُ: (مَملَكتي ليسَتْ من هذا العالمِ). ووضعُوا على رأسِه تاجاً وهو الّذي ما تكلّلَ رأسُه بغيرِ الشّوكِ. وأرهقُوه بحُطامِ الأرضِ وهو القائلُ: (للثّعالبِ أوجارٌ، وللطُّيورِ أوکارٌ، أمّا ابنُ الإنسانِ فليسَ لهُ أن يضعَ رأسَه). فباتُوا منذُ ذلكَ الحينِ ودِينُهم دَيْنٌ في أعناقِهم وشاهدٌ عليهِم في الأرضِ وفي السَّماءِ. وباتُوا لذلكَ ريشةً في مهبِّ الرّيحِ. وما المَدنيَّةُ الّتي شادُوها، على كلِّ ما فيْها من روعةٍ للعقلِ والعينِ والأذنِ، بدافعةٍ عنْهم جزاءَ خيانتِهم لمسيحِهم، وجزاءَ ما هَدرُوه وما برِحُوا يهدرونَه مِن دمعٍ ودمٍ".
ولكيْ يُزيلَ نعيمةُ الحيفَ الّذي لحقَ بالأديانِ قاطبةً نتيجةَ الابتعادِ عن جوهرِها الحقيقيِّ الّذي جاءَتْ به منْ إعلاءِ قدرِ الإنسانِ والسُّموِّ بروحِه وفكرِه، حتّى يستطيعَ معرفةَ سراطِ الخيرِ فيتّبِعُه، وإدراكَ سبيلِ الشّرِّ فيَجتنِبُه، وبترويضِ العقلِ والقلبِ يستقيمُ وجدانُه في التّمييزِ بينَ الفضيلةِ فيُمارسُها، وبينَ الرّذيلةِ فيُقلِعُ عنْها: "الدّينُ في عقيدتِي هدفٌ وطريقٌ. أمّا الهدفُ فهو انعتاقُ الإنسانِ من ربقةِ الحيوانِ في أسافلِه والانطلاقُ بهِ إلى الإلهِ الكامنِ أعاليهِ - إلى المعرفةِ الّتي لا يَخْفاها شيءٌ، والقدرةُ الّتي لا تَعصِيها قدرةٌ، والحياةُ الّتي لا يَطالُها موتٌ. وأمّا الطّريقُ فهوَ ترويضُ العقلِ والقلبِ ترويضاً لا فتُورَ فيهِ ولا انقطاعَ على ممارسةِ الفضيلةِ والإقلاعِ عن الرّذيلةِ".
ويؤكّدُ نعيمةُ أنّ الدّينَ بجوهرِه لا بطقوسِه وتقاليدِه؛ ولذلكَ كانَ الدّينُ أقْوى من ظروفِ المكانِ وأبقَى من تقلُّباتِ الزّمانِ، أمّا العالمُ الدُّنيويُّ فلا يوحّدُه هدفٌ ولا يجمعُه طريقٌ؛ لمَا فيهِ من صراعٍ بين غاياتِه ونزعاتِه المتشابكةِ والمتضاربةِ؛ لذلكَ يظلُّ عرضةً للقلاقلِ والحروبِ، فهو ريشةٌ في مهبِّ الرّيح. وقد انطلقَت أنوارُ هذا الدّينِ إلى العالمِ من الشّرقِ، ولهذا نرَى نعيمةَ يُطلقُ واهاتِ التّمنّي بعودةِ هذا الشّرقِ إلى رشدِه باتّباعِ سلاحِه الّذي يقْوى على كلِّ الأزمنةِ والأمكنةِ، إنّه سلاحُ الدّين الّذي لا يُفلُّ، فلمَ يَستبدلُ بهِ هذا الشَّرقُ سلاحاً يتأكَّلُه الصَّدأُ؟ وكانَ يتمنّى لو يستردُّ هذا الميراثَ، لعلّهُ يستطيعُ أن يردَّ بهِ العالمَ إلى رشدِه بدلاً مِن أن يفقدَ هو الآخرُ رشدَه في عالمٍ يراهُ قدْ جُنَّ جنونُه.
طريقُ الخلاصِ من مهبِّ الرّيحِ:
رأيْنا كيفَ أشادَ نعيمةُ بنتاجِ العقلِ الغربيِّ الّذي سخّرَ العلومَ والاختراعاتِ والاكتشافاتِ لنهضتِه المادّيّةِ، لكنّه فشِلَ في سبرِ أغوارِ قلبِه كيْ يسموَ بجوانبِه الرّوحيّةِ، فباتَ في ضياعٍ وضلالٍ؛ وكأنّه ريشةٌ في مهبِّ الرّيحِ، ولكيْ ينهضَ العالمُ من كبوتِه الأخلاقيّةِ الّتي مرّغتْه في أوحالِ الشَّهواتِ السُّودِ، وحرفَتْه عن جادّةِ الصّوابِ، فراحَ يتصارعُ في كيانِه ليستأثرَ بكلِّ خيراتِ الأرضِ، فنشأَتِ القِوى الاستعماريّةُ الّتي تتسابقُ كلَّ يومٍ بالعتادِ والقوّةِ لفرضِ السّلمِ على الخصْمِ، كمَا يدّعي هؤلاءِ، فباتَ العالمُ في خطرٍ مهدَّداً في أمنِه وسلامِه واستقرارِه، فراحَ نعيمةُ يرسمُ للبشريَّةِ طريقَ الخلاصِ الّذي يتجلّى في تعاليمِ أنبياءِ الشّرقِ الّذينَ رسمُوا للنّاسِ طريقَ الخلاصِ بخطوطٍ من نورٍ.
ويرى نعيمةُ أنّ أنبياءَ الشّرقِ أدركُوا أنّ من بينِ الشّهواتِ الّتي يكتظُّ بها القلبُ شهوةً عظيمةً يدعُوها (الشّهوةَ الغلّابةَ). هي شهوةُ الحياةِ والحرّيّةِ، "إنّها بمثابةِ الشّراعِ للمركبِ، والمنارةِ للملّاحِ، والدّليلِ للأعْمى، إذا انصاعَ لها الإنسانُ بكلِّ شهواتِه، كانَ من شأنِها أنْ تبلغَ بهِ في النّهايةِ المرتبةَ المعدَّةَ لهُ منذُ الأزلِ واللّائقةَ بأسْمى ما فيهِ من ملَكاتٍ ونزعاتٍ وأشواقٍ". فكلٌّ منّا يريدُ أن يحيَا حرّاً طليقاً دونَ قيدٍ أو حدٍّ إلّا من القيودِ والحدودِ الّتي نفرضُها على أنفسِنا وبملءِ إرادتِنا لنستعينَ بها على بلوغِ الحياةِ التي لا تموتُ والحرّيّةِ الّتي لا تُحَدُّ.
وقد أجمعَ أنبياءُ الشّرقِ على القولِ بأنّنا نستطيعُ بلوغَ هذهِ الشّهوةِ، شهوةِ الحياةِ الأبديّةِ الّتي لا تُعاندُ ولا تُقهرُ، والّتي توجِبُ عليْنا أن نجعلَ من جميعِ شهواتِنا خَدماً لها وحشَماً كيْما نستطيعُ تحقيقَها في النّهايةِ، ولن يستطيعَ تحقيقَها إلّا الصّالحونَ. ولذلكَ جعلَها الأنبياءُ بمثابةِ الثّوابِ الأكبرِ للمعيشةِ الصّالحةِ.
وتتجلّى عظمةُ أنبياءِ الشّرقِ في الانسجامِ التّامِّ بينَ القولِ والفعلِ. "فالأنبياءُ ما دلُّونا على طريقِ الحياةِ والحرّيّةِ إلّا من بعدِ أن سلكُوه بأنفسِهم واستوثقُوا من الغايةِ الّتي ينتَهي إليْها". وقد حذَا حذوَهم نفرٌ منَ الّذين لاصقُوهم بأرواحِهم وأجسادِهم فتلقّحُوا بإيمانِهم، والتهبُوا بحماستِهم، وتذوّقُوا مثلَهُم حلاوةَ السّلم والحياةِ والحرّيّةِ. فكانوا لنا الحُجّةَ القاطعةَ والدّليلَ القاطعَ على صحّةِ ما تلقَّنُوه من معلّمِيهم وعلى مقدرتِنا - ونحنُ بشرٌ أمثالُهم - أنْ نسلكَ السِّراطَ الّذي سلكُوا، وأن نبلغَ الهدفَ الّذي بلغُوا، ألَا إنّه طريقُ الحياةِ والحرّيّةِ - وبالتّالي طريقُ السّلمِ - الذي اختَطّه لنا معلّمُو الشّرقِ وصحابتُهم وحواريُّوهم منذُ أجيالٍ وأجيالٍ، بعد أنْ سبَرُوا أغوارَ القلبِ البشريِّ، وكشفُوا دفائنَه، وتفهَّمُوا سائرَ شهواتِه وعلى رأسِها الشّهوةُ الغلّابةُ، وكلُّ طریقٍ دونَ هذا الطّريقِ يؤدّي حتْماً إلى الموتِ فالعبوديّةِ فالحربِ.
ويَرى نعيمةُ أنّ مجاهرتَه بهذا القولِ قد جعلَ منهُ هدفاً لكثيرٍ منَ النّاسِ مِن حولهِ، فراحُوا يتّهِمُونه بالرّجعيّةِ؛ لأنّه يريدُ أن يعودَ بهم القَهْقرى إلى سلطانِ الدّينِ ورجالِه، وهُم مَن "جَنَوا على الشّرقِ فباتَ في مؤخّرةِ ركْبِ الحضارةِ وكانَ جديراً بهِ أن يسيرَ في المقدّمةِ، وباتَ لقمةً سائغةً يتسابقُ إلى ازدِرادِها أقوياءُ الأرضِ، وكان حريّاً بأنْ يكونَ منَ القوّةِ بحيثُ يأخذُ الأفضلَ والأشْهى من سمْنِ الأرضِ وشهدِها فلا يأكلُ الغَيرُ إلّا فضلتَهُ".
لكنّ نعيمةَ يردُّ تلكَ التُّهمةَ بحجّةٍ دامغةٍ أقوَى من كلِّ اتّهامِ، إذ يصفُ هؤلاءِ بأنّهم ما فهِمُوا منَ الدّينِ إلا قشورَهُ، ويرمِي باللّائمةِ على رجالِ الدّين الّذينَ جعلُوا من الدّينِ "سلسلةَ طُقوسٍ وتقاليدَ قدْ تُدغدغُ العينَ والأذنَ إلا أنّها تتركُ القلبَ بارداً والفكرَ شارداً والرّوحَ في عطشٍ ممضٍّ وجوعٍ قتّال".
وأخيراً يختمُ ردَّهُ ببيانِ ماهيةِ الدّينِ بأنّه لبٌّ هدفُه النُّهوضُ بالإنسانِ من مستَوى البهيمةِ إلى مُستوى الألُوهةِ، حينَما يقولُ: "ولستُ أعرفُ من كلِّ الطُّرقِ الّتي يسلكُها النّاسُ طريقاً يؤدّي بهِم منَ الحيوانِ إلى اللهِ غيرُ الطّريقِ الّذي اختطّهُ لهُم معلّمُو هذا الشّرق".
خاتِمة:
وبهَذا استطاعَ نعيمةُ أن يبرهنَ على واقعيّةِ آرائِه بدحْضِ ما افتراهُ الغربُ على الإنسانيّةِ بدعوتِه إلى السِّلمِ وتسابقِه إلى الحربِ وما جناهُ تطوُّرُه العقليُّ عليهِ من حضارةٍ مادّيّةٍ زائفةٍ استمرأَتْ حرّيّةَ الإنسانِ، وطغَت على جوانبِه الرّوحيّةِ، فباتَ كريشةٍ في مهبِّ الرّيحِ، وامتدّت آفةُ الغربِ إلى المشرقِ العربيِّ في شتّى جوانبِ حياتِه، فراحَ يتغنّى بأمجادِه متناسياً حاضرَه من الذّلِّ والهوانِ، فباتَ كذلكَ ريشةً في مهبِّ الرّيحِ، ولم يبقَ أمامَ العالمِ من طريقٍ صحيحٍ للخلاصِ سِوى اتّباعِ السِّراطِ المستقيمِ الّذي اختطَّهُ أنبياءُ الشّرقِ للإنسانيّةِ في سعيِها إلى الحياةِ الأبديّةِ الحرّةِ الهانئةِ الكريمةِ.