بطل المسرح الهزلي
لقد أتممت اليوم عامي الأربعين في عملي كممثل صامت في المسرح الهزلي، لم أطمح يوماً لأدوار البطولة، فأعظم ما أتمناه هو لعب أدوار أكثر أهمية من دوري الصامت الذي اعتدت ممارسته على ركن مهمش في خشبة المسرح. تراودني بعض الأفكار التشاؤمية كالتقاعد المبكر، وبعض الأفكار الجنونية كالتمرد ومزاحمة الأبطال على خشبة المسرح.
تجولت ببصري أنظر إلى الأبطال الذين لطالما هزؤوا بأمثالي من الممثلين الصامتين لسنوات طويلة، ثم أخذت نفساً عميقاً واستحضرت أدواتي وشرعت في استخدامها لعلي أجد دوراً يليق بما أنعم الله به عليّ.
تفحصت المكان مجدداً ثم تقدمت بخطوات مترددة إلى منتصف خشبة المسرح حيث يقف الأبطال، وأثناء هذه الرحلة الطويلة من الزاوية اليسرى لخشبة المسرح إلى منتصفه، كنت أفكر في عاقبة ما أقدمت عليه الآن، ولسان حالي يقول: "كيف سيسمح هؤلاء الأبطال لصعلوك مثلي بمزاحمتهم؟" تذكرت الابتسامة؛ ذلك السلاح السحري الذي يذيب الثلوج ويأسر القلوب، فارتسمت على وجهي ابتسامة بريئة لم تستمر لأكثر من بضع ثوانٍ إذ تقدم إليّ أحد أبطال المسرح وصفعني ثم أردف ساخراً: "عد إلى مكانك أيها الأحمق، فلن تجدي ابتسامتك البلهاء نفعاً".
تحسست وجنتي المحمرة وتذكرت المسيح حين أوصى أتباعه بأن يعرضوا الخد الآخر إذا تلقوا صفعة على الخد الأول. نظرت إلى الرجل بانكسار ثم أدرت خدي الآخر لأتلقى من الرجل صفعة أكثر قوة ثم أردف بذات النبرة الساخرة: "نحن على دين أحمد" فقلت له بتلقائية وأنا أتحسس موضع الصفعة الثانية: "وأنا على دينه يا أخي، فأفض علي من كرمك وأفسح لي مكاناً من فضلك" فتقدم بطل آخر إليّ وهوى بعصاه على رأسي وقال بحزم: "محاولة جيدة، ولكنها لن تجدي نفعاً".
أطلقت زفيراً طويلاً، ثم تذكرت أثر الكلام اللين ووقعه على النفس، وقلت له بهدوء: "إنما المؤمنون أخوة" فأمسك بمجامع ثوبي وشدني بعنف ثم قال: "أخوة؟ لست مني إلا كهابيل من أخيه قابيل". أمسكت قبضة يده برفق وقلت له: "وما الضير في أن تكون مني كهارون من موسى؟".
علت الأصوات بعد أن تفوهت بعبارتي الأخيرة، وتقدم نحوي بطل آخر وقال بغضب: "وأين أنت من موسى؟ هل تعادل قوتك قوته؟ هل تملك رجاحة عقله؟ والله إنك لأهون عندي من نعل موسى". دفعت يد الرجل القابضة على رقبتي وقلت بصوت متحشرج: "أقرّ بذلك، ولكنني أمتلك شيئاً مقدساً امتلكه موسى؛ الروح!".
ساد الصمتُ المكانَ، ثم اقترب مني كبير الأبطال، وهو شيخ جليل يتوكأ على عصا فوضع عصاه على صدري وقال: "أرى أنك تجيد بعض فنون المنطق، ولكنها لن تجدي نفعاً، فالقوي يفرض على الضعفاء أمثالك ما يشاء، فأغمد سلاح العقل، وامتثل لما نمليه عليك، هل فهمت؟".
أومأت برأسي دون أن أنطق بكلمة، ونظرت إلى عيني الشيخ مترقباً، فنظر إلي بازدراء وأشار بعصاه إلى الجانب الأيسر لخشبة المسرح، فتحركت بخطوات ثقيلة نحوها أنظر بعيني الذابلتين إلى زملائي المهمشين الذين عملوا كممثلين صامتين لسنوات طويلة ولم يجرؤ أحدهم على فعل ما أقدمت عليه منذ قليل.
وما إن وصلت إلى موقعي حتى استسلمت أقدامي فالتصق جسدي بالأرض، وفقدت الشعور بالآلام الجسدية، ثم بدأت النيران تجتاح عقلي، إذ كان وقع كلمات الأبطال أشد وطأة من ضرباتهم.
خلال دقائق، تدفق سيل من الأفكار إلى عقلي، لماذا فشلت هذه الأدوات؟ إنها تعمل بفعالية مع رفاقي البسطاء، فلماذا لم تؤثر في الأبطال؟ استحضرت أدواتي مجدداً؛ الابتسامة، التسامح، الكلام اللين، والمنطق، ثم تذكرت وسيلة لم أجربها بعد.
نهضت مجدداً، وتقدمت بخطوات ثابتة إلى منتصف خشبة المسرح، ووقفت أمام الشيخ قائلاً بنبرة باردة: "من فضلكم، أفسحوا الطريق للبطل الجديد" نظر الشيخ إلي باستنكار ورفع عصاه إلي فأمسكتها بيدي وكررت عبارتي الأخيرة بذات النبرة الباردة، فحاول الشيخ أن يضربني بعصاه فأخذتها منه ثم هويت بها على رأسه ليسقط أرضاً. فما كان من رفاقي إلا أن قفزوا من خشبة المسرح كالمجانين خوفاً من بطش الأبطال بهم.
نظرت إليهم بإشفاق ثم وضعت العصا على الأرض، واقترب مني الرجل الذي صفعني فنظرت إليه مبتسماً، فما كان منه إلا أن بادلني بابتسامة متوترة وأفسح لي الطريق مبتعداً عن منتصف خشبة المسرح ثم تبعه رفاقه، لأجد نفسي منفرداً في منتصف خشبة المسرح والأضواء موجهة إلي. وفي هذه اللحظة، وقف الجمهور مصفقاً لي بحرارة، لقد أدركت حينها أن تلك الأدوات لن تجدي نفعاً ما لم يمتلك صاحبها القوة الكافية. ارتسمت على وجهي ابتسامة واثقة ورفعت يدي بالتحية إلى الجمهور، فأنا الآن، لم أعد ممثلاً صامتاً، ولكنني بطل لا يشق له غبار، بطل من أبطال مسرح الحياة الهزلي!