الخميس ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

صراعُ الأضدادِ- التّفاؤلُ والتَّشاؤمُ

في اللُّغة

تفاؤُل: (مصدر تَفَاءلَ) هُوَ دَائِمُ التَّفَاؤُلِ: دَائِمُ الانْشِرَاحِ، مَنْ يَرَى كُلَّ شَيءٍ جَمِيلٍ عَكْسُ التَّشَاؤُمِ. تَفاءلَ: (فِعل) : من يتفاءَلُ، تفاؤُلاً، فهو مُتفائِل، والمفعولُ متَفاءَل به: تَفاءَلَ به: افْتَألَ تَفَاءلَ بِهِ خَيْراً : تَيَمَّنَ بِهِ جَدِيرٌ أَنْ يَتَفَاءلَ بِهِ، تَفَاءلَ بِرُؤْيَةِ البَشِيرِ : رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ لَهُ خَبَراً سَارّاً وَصَلاَحاً وَخَيْراً، تَفَاءلُوا بِالخَيْرِ تَجِدُوهُ: غَلِّبُوا الخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ.

تَشاؤُم: (اسمٌ) : مصدرُ تَشَاءمَ، تَشَاؤُمُهُ يُزْعِجُنِي: تَطَيُّرُهُ، عَكْسُ التَّفَاؤُلِ. تَشاءمَ: (فِعل) تشاءمَ من يتشاءَمُ، تشاؤماً، فهو مُتشائِم، والمفعولُ مُتشاءَمٌ به، تَشَاءَمَ الْمُسَافِرُ: تَطَيَّرَ، أَيْ تَوَقَّعَ حُدُوثَ الشَّرِّ . تَشَاءمَ مِنْهُ، بِهِ فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ: اِعْتَبَرَهُ شُؤْماً.

في الفكرِ والأدبِ

الحياةُ ثَمِلةٌ بالمصائبِ والشُّرورِ والحروبِ، بالخرابِ والدَّمارِ، بالتّنافسِ لقهرِ الشُّعوبِ وإفقارِها وإذلالِها واحتلالِ بلدانِها، انتَهى عهدُ الإمبراطوريّاتِ والاستِعمارِ والاحتلالِ؛ ليبدأَ عصرُ الهيمنةِ بشتَّى أشكالِها وألوانِها، تارةً باسمِ الحضارةِ ونشرِ التَّمدُّنِ، وتارةً أُخرى بمحاربةِ الإرهابِ والتَّطرُّفِ، وتارةً ثالثةً بحُججِ الأمنِ القوميِّ وحفظِ السِّلمِ العالميِّ، وكلٌّ يتسابقُ إلى امتلاكِ أعْتى أسلحةِ الدَّمارِ الشَّاملِ الّتي تُنْهي العالمَ في هنيهةٍ من هُنيهاتِ الجُنونِ والتَّهوُّرِ اللّذينِ يَسِمانِ معظمَ القادةِ العسكريّين.

وفي خِضمِّ هذهِ الصُّورِ المأساويّةِ للعالمِ، هل بقيَ للتَّفاؤلِ مقامٌ أمامَ هولِ التّشاؤمِ ممّا يحيطُ بالعالمِ من نهايةٍ مأساويّةٍ تُنذِرُه بالزّوالِ بتدميرِ الكرةِ الأرضيّةِ وقربِ نهايةِ العالمِ، والدّلائلُ أكثرُ من أنْ تُعدَّ أو تُحْصى، والنُّبوءاتُ الدّينيّةُ والفكريَّةُ تشيرُ بوضوحٍ إلى هذهِ النّهايةِ بلا أدْنى ريبٍ! ولكنْ علَينا ألّا نفقدَ الأملَ مهْما ادلهمَّتِ الحياةُ بجلابيبِ الدُّجى والتّشاؤمِ، فمِنْ بينِ الظَّلامِ الحالكِ لا بدَّ أن يُشرقَ شعاعُ النُّورِ والخلاصِ، كمَا عبَّر عن ذلكَ المفكّرُ العربيُّ مُصطفى محمُود: "على الرّغمِ من الحاضرِ الظّالمِ، فإنّني شديدُ التَّفاؤلِ شديدُ الثّقةِ بأنَّ الفجرَ يقتربُ، وأنّ الصُّبحَ الوليدَ قادمٌ من هذا المخاضِ الدَّمويّ الرَّهيبِ". وحتّى لو جهِلْنا ماذا يُخبّئُ لنا المستقبلُ من مصيرٍ مجهولٍ، علَينا أن نُخبِّئَ لهُ التَّفاؤلَ، كمَا قال المفكِّرُ الإيرلنديُّ جورج برنارد شُو: "لا أعلمُ ماذا يُخبّئُ لي الغدُ، ولكنّي خبَّأْتُ له التّفاؤلَ".

ونظلُّ مُتمسِّكينَ بالإيمانِ وبمعرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنّ الإيمانَ بقدرةِ اللهِ على التَّغييرِ وقلبِ الحزنِ إلى فرحٍ والتَّشاؤمِ إلى تفاؤلٍ والضّيقِ إلى فرجٍ هو المخرجُ الحقيقيُّ لنعيشَ بسعادةٍ، كمَا عبّرَ عن ذلكَ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ: "في القلبِ حزنٌ لا يُذهِبُه إلّا السُّرورُ بمعرفةِ اللهِ". والتَّفاؤلُ إيمانٌ مقرونٌ بالأملِ والثّقةِ يُؤدّي إلى الإنجازِ وتحقيقِ ما نتطلَّعُ إليهِ، على نحوِ ما عبَّرتْ عنهُ هيلين كيلر: "التّفاؤلُ هو الإيمانُ الّذي يُؤدّي إلى الإنجازِ. لا شيءَ يُمكنُ أنْ يَتِمَّ دونَ الأملِ والثّقةِ".

ولذلكَ وجبَ علَينا أنْ نتفاءلَ بغرسِ كلِّ يومٍ بفرصةٍ منَ التّفاؤلِ ليكونَ جميلاً، وعلَينا أنْ نُصِرَّ على التَّفاؤلِ؛ لأنّ ذلكَ يُحقِّقُ ما كانَ مُستَحيلاً، كمَا في قولِ مارك توين: "امنحْ كلَّ يومٍ الفرصةَ لأنْ يكونَ أجملَ أيّامِ حياتِكَ". وكمَا نَرى في قولِ وليَم شِكْسبير: "الإصرارُ على التَّفاؤلِ قد يصنعُ ما كانَ مستحيلاً". والإحساسُ بالتَّفاؤلِ لا بدَّ أن يَعقِبَه أمرٌ جميلٌ كمَا أنَّ التَّفاؤلَ بالخيرِ يُثمِرُ خيراً، وهذا ما عبَّرَ عنهُ باولو كويللو في قولِه: "شعورُك بالتَّفاؤلِ يَعني أنَّ هناكَ شيئاً جميلاً قادِماً".

ويجبُ أن يقترنَ الشُّعورُ بالتَّفاؤلِ بالعملِ والسَّعيِ والجهدِ، كما أنَّ الوردةَ لا يُمكنُ أن تتفتَّحَ إلّا بغرسِ نبتَتِها وسقايتِها ورعايتِها، وكذلكَ كلُّ ثمرةٍ لا يُمكنُ أن تنضجَ إلّا بزراعةِ شجرتِها والعنايةِ بها على نحوِ ما نهتمُّ ببناءِ الطُّفولةِ حتّى تكبرَ، فنَبْني الشَّبابَ ونُنتجُ الرُّجولةَ، يقولُ الرّوائيُّ نجيبُ محفُوظ: "كثيرٌ منَ النّاسِ يظنُّ أنَّ التَّفاؤلَ هو انتظارُ خروجِ وردةٍ دونَ أن يزرعَها بعدُ". ونحنُ مَن يغرسُ بذورَ التّفاؤلِ أو يبذرُ بذارَ التَّشاؤمِ في تفكيرِنا ومُعتَقداتِنا، كما قالَ إبراهيمُ الفقي: "عقلُكَ مثلَ حديقةٍ، إمّا أنْ تزرعَها بورودِ الأملِ والتَّفاؤلِ أو تملَأَها بشوكِ اليأسِ والتَّشاؤمِ.. تفاءَلُوا بالخيرِ تجِدُوهُ".

ولا أحدَ يَشكُّ في أنَّ التَّفاؤلَ هو أكثرُ العواملِ الّتي تُحقِّقُ النَّجاحَ والسَّعادةَ في الحياةِ، كمَا قالَ برايان تريسي: "التَّفاؤلُ هو الميزةُ الأكثرُ ارتباطاً بالنَّجاحِ والسّعادةِ منْ أيّ شيءٍ آخرَ".

ويجِبُ علَينا النَّظرُ إلى الحياةِ بعينِ التَّفاؤلِ حتّى لا نقَعَ ضحيَّةَ التَّذمُّرِ والشَّكْوى اللَّذينِ يستَهلِكانِ منّا جلَّ تفكيرِنا ووقتِنا دونَما فائدةٍ، وإنّما يزيدانِ الطّينَ بلَّةً والهمومَ عبئاً وعلّةً، كمَا تقولُ كلير أوستن: "انظرْ الى الحياةِ بتفاؤلٍ.. التَّذمُّرُ والشَّكْوى من المشاكلِ الّتي تعترضُ طريقَنا يستهلكُ تفكيرَنا ووقتَنا دونَ طائلٍ".

ويجبُ أن نضعَ نُصْبَ أعيُنِنا الحقيقةَ الفلسفيَّةَ لنتاجِ كلٍّ منَ التَّشاؤمِ والتَّفاؤلِ، فالأوّلُ يُورثُ الضَّعْفَ، والثّاني يقودُنا إلى القُوَّةِ، كمَا في رأيِ سيغموند فرويد: "التَّشاؤمُ يُفْضي إلى الضَّعفِ، بينَما التَّفاؤلُ يقودُك إلى القوّةِ".

وكذلكَ فإنّ التَّشاؤمَ يحجُبُ عن أبصارِنا كلَّ جميلٍ، مثلمَا تحجُبُ عنَّا دموعُ البكاءِ على غيابِ الشَّمسِ متعةَ النَّظرِ إلى النُّجومِ ليلاً، على نحوِ ما عبَّرتْ عنهُ فيُوليتا بارا: "لا تبكِ إذا ذهبَتِ الشَّمسُ، فدموعُكَ ستَحجبُ عنكَ رؤيةَ النُّجومِ". ولأنَّ التَّشاؤمَ مرضٌ نفسيٌّ يدفعُ بالمتشائمِ إلى إنكارِ رؤيةِ الضَّوءِ حتّى وإنْ أبصرَتْه مُقلَتاهُ، كمَا يقولُ بيرون: "المتشائمُ.. أحمقُ يَرى الضَّوءَ أمامَ عينَيهِ، لكنَّهُ لا يُصدِّقُ".

وثمَّةَ فروقٌ جوهريَّةٌ بينَ المتفائِلينَ والمتشائِمينَ، "فالمتفائلُ هوَ مَن ينظرُ إلى عينَيكَ، والمتشائمُ هو مَن ينظرُ إلى قدمَيكَ"، كمَا قالَ تشسترتون. وكذلكَ يتذمَّرُ المتشائمُ في نظرتِه إلى الورودِ حينَما يَراها بينَ الأشواكِ، أمّا المتفائلُ فإنَّه يَرى جمالَ الورودِ فوقَ أشواكِها، على نحوِ ما عبّرَ عنهُ جبرانُ خليل جبران: "هناكَ مَن يتذمَّرُ لأنَّ للوردِ شوكاً، وهناكَ مَن يتفاءلُ لأنَّ فوقَ الشَّوكِ وردةً". ولذلكَ كانَ لزاماً أنْ نَبتسِمَ؛ لنستقبلَ هِباتِ التَّفاؤلِ من الحياةِ، ونقهرَ عواملَ اليأسِ ونقوّيَ عزيمتَنا، على نحوِ ما عبَّرَ عنهُ نجيبُ محفوظ: "ابتسِمْ لتقهرَ يأسَكَ، ابتسِمْ لتُقوّي عزيمتَكَ، وتستقبلَ هِباتِ الحياةِ بتفاؤلٍ".

رأيْنا ممَّا سبقَ أنّ المفكّرينَ والأدباءَ دعَونا في أقوالِهم إلى التَّفاؤلِ وعدمِ الاستِسلامِ لليأسِ والتّشاؤمِ، وفي ميدانِ الشّعرِ يطالِعُنا الشُّعراءُ بأبْهى قصائدِهم الّتي تدعُونا إلى التَّحلّي بالتَّفاؤلِ والتَّخلّي عنِ التَّشاؤمِ، وسأَقْصرُ جُهدي هُنا على أجملِ ما وقَعَت عليهِ قريحَتي في ديوانِ الشِّعرِ العربيِّ، وأتناولُه بالتَّحليلِ والتَّعقيبِ والتَّوضيحِ. من ذلكَ ما قالَهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحمَهُ اللهُ:

هِمَّـــتي هِمَّــــةُ الملُـــوكِ ونفْسِي
نَفْسُ حُـرٍّ تَرَى الْمَذَلَّــةَ كُفْـــرَا
أَنَا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أعْدَمُ قُوْتاً
وَإذا مُـتُّ لَسْــتُ أعْــدَمُ قَــــبْرَا
وإذا مــا قنِعْتُ بالقُــــوتِ عُمْـري
فَلِمَــــاذَا أزورُ زَيْـــداً وَعَمْــــرَا

إذنْ على المرءِ أنْ يتَحلّى بالشَّجاعةِ وسعةِ الهِمّةِ وعزّةِ النَّفسِ لتَحقيقِ أمانيهِ منْ أجلِ أن يتجنَّبَ ذلَّ السُّؤالِ، فإنْ لم يستطِعْ تحقيقَ جُلَّ أمنياتِه، فلنْ يَقضيَ نحبَهُ جوعاً، وإنْ ماتَ فلنْ يَعدمَ جدَثاً يُوارَى فيهِ جثمانُه، ولذلكَ وجبَ على الإنسانِ أن يقنعَ بما يملكُ من قوتِ يومِه وألّا يُذِلَّ نفسَه لزيدٍ أو عمرٍو منَ النَّاسِ في طلبِ العونِ.
ويقولُ الشَّاعرُ عبدُ الرَّحمنِ العَشْماوي في قصيدتِه (إشراقةُ أملٍ):

سِـــتارُ ظــــلامِ اللَّــــيلِ سـوفَ يُجَـابُ
وتُسْــقَى بأضـــواءِ الصَّبـــاحِ رِحَـــابُ
وســوفَ يُبِينُ الفَجْـرُ مـــا كانَ خافِـــيَاً
ويُفْتَـــحُ مـــنْ بعــدِ التَّغلُّــقِ بـــبُ
وتَشْــدُو عصـافيرُ المُنى بعـــــدَ صَمْــــتِها
ويَخْلـــعُ ثـــوبَ الشُّــــؤمِ عنـــهُ غُــــرابُ
وتَخْلُــــصُ مــــنْ مَعْــــنى التَّشاؤمِ بُومــةٌ
لهَــــا لـــغةٌ مــنْ حُبِّهـــا وخِطَـــابُ
ومَــا الشُّـؤمُ إلّا في نفُوسٍ مريضَــةٍ
علَيها مـــنَ اليَــــأْسِ الثَّقــــيلِ حِجَــابُ

فهيَ قصيدةٌ تعبِّرُ عن حالِ الأمّةِ الّتي أصابَها الذُّلُّ والخنوعُ وحلَّ بها اليأسُ، يردُّ فيها الشَّاعرُ على هؤلاءِ الغربانِ الّذينَ يُوجّهُونَ سهامَ نقدِهم وحقدِهم على أمَّتِنا فينهالُونَ عليها بالتُّهمِ الباطلةِ بالتَّخلُّفِ والتَّقَهقُرِ ، داعياً إلى شحْذِ الهِممِ بقوّةِ العزيمةِ، فمَهْما طالَ اللّيلُ بظلماتِه، لا بدَّ أن يُولَدَ فجرٌ جديدٌ، وينبعثَ النُّورُ من رحِمِه؛ لتنكشِفَ الحقائقُ ويَبينَ كلُّ مستورٍ وتتفتَّحَ الأبوابُ المغلقةُ، فتُنشِدُ العصافيرُ أجملَ ألحانِها بعدَ صمتٍ طويلٍ، ولا بدّ للغرابِ أنْ يخلعَ عنهُ ثوبَ الشُّؤمِ ولا بدَّ للبومةِ أنْ تتخلَّصَ من دلالتِها على التَّشاؤمِ، فالتَّشاؤمُ مرضٌ يلازمُ كلَّ نفسٍ معتلَّةٍ أثقلَها اليأسُ بالهمومِ فيحجبُ عنها كلَّ بارقةِ أملٍ في الخلاصِ.

ثمّ يوجِّهُ الشّاعرُ نصائحَه لهؤلاءِ اليائسينَ الّذين زلّتْ أقدامُهم في المسيرِ ومَن هانَتْ عزيمتُهم عندَ الخطوبِ بأنّ القمرَ لا بدَّ أن يُصبحَ بدراً ليخترقَ ظلماتِ اللّيلِ بأنصعِ ضيائِه، ولا بدّ أن تُورقَ أشجارُ الوفاءِ وتخلعَ قشورَها الخادعةَ؛ لتمنحَ عطاءَها للصَّادقينَ الصَّابرينَ لُبابَ الخيرِ والجُودِ، ولا بدَّ لأرضِ المحبَّةِ والسَّلامِ أن تُخصِبَ من جديدٍ بعدَ أن أصابَها جدْبٌ وقُحطٌ؛ وموعدُها معَ السَّحابِ قريبٌ، وستُشرقُ شمسُ حضارتِنا من ههُنا ونَعْتلي صهواتِ المجدِ والسُّؤددِ ما دمْنا متمسِّكينَ بأهدابِ الشّريعةِ الإلهيّةِ السَّمحةِ الّتي تستمدُّ أنوارَها من كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِه الكريمِ:

أقــولُ لمــنْ زلَّ الطَّــــريـقَ بخَطـْوهِ
ومَنْ عَــزْمُهُ عنـــــدَ الخُطُـــوبِ يُـــذَابُ
سيَمنَحُنا وجــــهُ الهِــــلَالِ اســـــتِدارةً
ويَفْتــــحُ بابـــاً في الظَّـــلامِ شِــهَابُ
ســــتُـــــورِقُ أشـجارُ الوفـــــاءِ وتَرتَـــمي
قشُــورٌ، ويَبْـــقى للصَّـــبُــــورِ لُبَــــابُ
ستُخْصِبُ أرضُ الحُبِّ منْ بعدِ جدْبِها
ويُسْــــــعِفُها بعــدَ الجَفـــافِ سَحَــــابٌ
سَــــنَرقَى ونَــــــرْقى ثــــمَّ نَـــرْقى، لأنَّنَـــا
تُحَــكَّمُ فــــيْــــــنَـــــا سُـــنَّــــةٌ وكِتَـــابُ

ويقولُ الشّاعرُ أحمد مطر في قصيدتِه (طائرُ الأماني):

لو بَقِيَتْ لي لحْظةٌ واحِدةٌ
فَسوفَ أحيَاها لأَقْصَاهَا
آخُذُها بشَوقِ مأَخُـــوذٍ بِها
شُكْراً لِمَنْ مَـــــــــنَّ فأَعْطــَاهَــا
أُفرِغُ مِن ذِكْري بِها
ما يَجْعلُ النِّسيانَ يَنْسَاهَا!
أَعِيشُها كأنَّها
مِن لَحظَاتِ العُمْرِ أَحْلاهَا وأَغْلاهَا
إنْ أشْرقَتْ..
فَعَيْشُها يُسْعِدُ قلْبَ سَعْدِهَا
وإن دَجَتْ..
فإنَّهُ.. يُغِيظُ بَلْوَاهَا!
لو بَقِيَتْ لي لَفظةٌ واحِدةٌ
فَسَوفَ أحْشُو بالدُّنَا فَاهَا
وَسوفَ أُعْلي صوْتَها
كأنّمَا لَمْ تُخلَقِ الأسْمَاعُ لوْلاهَا!
إن أزْهَرَتْ..
مَدَّتْ لأذْواقِ الوَرَى
رَحِيقَ صَوْتِ لَحْنِها
وَسِحْرَ صَمْتِ كونِها
وَداعبَتْ أنفاسَهُمْ بعِطْرِ مَعْنَاهَا.
وإن ذَوَتْ..
فَحَسْبُها أن تُورِثَ النَّاسَ لَها
في البَذْرِ أشْبَاهَا!
بلَحْظةٍ مِنَ المُنَى
وَلَفْظةٍ مِنّي أنَا
سَوفَ أطِيرُ بالدُّنَا
فَوقَ دَنايَاهَا
والبَهاءِ وَالسَّنَا أَحْوي مُحَيّاهَا.
فإنْ دَنَتْ مَنِيَّتي
فَسَوفَ لنْ تَلْقى هُنا
إلاّ مَنَاياهَا!

فعلَى الإنسانِ ألّا يتشاءمَ مهْما شعرَ بدنُوّ الأجلِ، ومهْما أسدلَتِ الحياةُ عليهِ سدولَ الشَّقاءِ والتَّعاسةِ، فيظلُّ للشّاعرِ في الحياةِ لحظةٌ جميلةٌ وكلمةٌ حلوةٌ معبِّرةٌ ومؤثّرةٌ، فهو يتطلَّعُ إلى تلكَ اللّحظةِ؛ ليُحِيلَها إلى سعادةٍ وهناءةٍ وينْسى كآبتَه وشقاءَه؛ لأنّها إن أدبرَتْ لن تعودَ مرّةً أخْرى وفي إدبارِها شقاءٌ وبؤسٌ، وإن بقيَتْ للشّاعرِ في فمِه كلمةٌ سيقولُها، وسيملأُ الدُّنا بها، ويسحرُ بمَعْناها ومَغْناها آذانَ الورَى إن أزهرَتْ، وإن ذوَتْ فلا بدَّ أن تُولِّدَ عندَ النّاسِ ما يُشبِهُها في البَذْرِ، وفي بهاءِ الكلمةِ وجمالِ اللّحظةِ يُحلّقُ الشّاعرُ في السّماواتِ حاملاً أمانيَهُ الجميلةَ وكلماتِه البهيَّةَ، فإنْ أقبلَتِ المنيَّةُ فلن تَلْفى إلّا الأمواتَ على الأرضِ.

وفي قصيدتِه الأُخْرى (التَّفاؤل) يُعبِّرُ الشّاعرُ أحمد مطر عن خيبةِ أملِه بالعامِ الجديدِ الّذي سمَّوهُ عامَ السّلامِ جاءَ ليُنْسيَ النَّاسَ همومَهم وأحزانَهم، فإذا بهِ يطرقُ بابَ الشَّاعرِ بهيئةِ سجّانٍ يحملُ أغلالَ الحديدِ بأوصافِه القبيحةِ من عَدْوى في فمِه، ومن نعيٍ في كفِّه، ومن وعيدٍ وتهديدٍ في عينَيْهِ، ورأسُه بينَ رجليهِ ملوَّثتانِ بالدّماءِ، وذراعاهُ مليئَتانِ بالصَّديدِ (القَيْح)، وقد خاطبَ الشّاعرَ قائلاً: إنّني أحملُ لكَ بشارةً سارّةً تُخلِّصُك من همومِكَ وأحزانِك الّتي ستُصبحُ مجرَّدَ ذكْرى؛ لأنّني أحملُ لكَ القهرَ أشدَّ وأعْتى، ولكنْ سأرفعُ عنكَ همومَ أجرةِ البيتِ الّذي تسكنُه، فقدْ هيَّأنا لكَ مَسْكناً جديداً مجّاناً وراءَ قضبانِ الحديدِ، ونعِدُكَ بأنّنا قد تخلَّيْنا عن اغتيالِكَ غدْراً حتّى لا تكونَ من الشُّهداءِ، فيزيدُ إيمانُكم بالجنَّةِ الّتي أُعِدَّت للشّهيدِ، ودعَا الشَّاعرَ للابتهاجِ؛ لأنَّ حشرَهُ بينَ الخرافِ عيدٌ، فيَستغربُ الشّاعرُ كلامَه مندهشِاً، كيفَ يكونُ ذلكَ في عامٍ جديدٍ خيرِ عامٍ، إنّه عامُ السَّلامُ، وقد ولّتْ قبلَهُ أعوامُ الجراحِ والأسَى، فيُجيبُهُ الكائنُ الغريبُ مُستهزِئاً: لا تتفاءلَ كثيراً إنّني العامُ الجَديدُ:

دقّ بابي كائنٌ يحملُ أغلالَ العَبيدْ
بشِعٌ
في فمِه عَدْوى
وفي كفِّه نعْيٌ
وبعينيهِ وَعيدْ
رأسُه ما بينَ رِجلَيْه
ورجلاهُ دماءٌ
وذراعاهُ صَديدْ
قالَ: عِنْدي لكَ بُشْرى
قلتُ: خيراً؟!
قالَ: سجِّلْ
حزنُكَ الماضِي سيَغْدو محْضَ ذِكْرى
سوفَ يُستَبدَلُ بالقهرِ الشَّديدْ!
إن تكُنْ تسكُنُ بالأجرِ
فلنْ تدفَعَ بعدَ اليَومِ أَجْرا
سوفَ يُعْطُونَكَ بَيْتا
فيهِ قُضْبانُ حَديدْ!
لم يعُدْ مُحتَمَلاً قتلُكَ غَدْراً
إنّه أمرٌ أكِيدْ!
قوّةُ الإيمانِ فيْكُم ستَزيدْ
سوفَ تَنْجُونَ منَ النّارِ
فلا يدخُلُ في النَّارِ شهِيدْ!
ابتهِجْ
حشْرٌ معَ الخِرفانِ عيدْ!
قلتُ ما هَذا الكَلامْ؟!
إنّ أعوامَ الأسَى ولّتْ، وهَذا خيرُ عامْ
إنّهُ عامُ السَّلامْ
عفَطَ الكائنُ في لحيتِهِ
قالَ: بلِيدْ
قلتُ: مَن أنتَ؟!
وماذا يا تُرى منّي تُريدْ؟!
قالَ: لا شيءَ بَتاتاً
إنّني العامُ الجَديدْ!
وأجملُ ما نلقاهُ من نظراتِ تفاؤلٍ إلى الحياةِ ودعواتٍ إلى نبذِ التَّشاؤمِ فيمَا قالَهُ إيليّا أبو ماضِي في قصيدتِه (أيُّهذا الشَّاكي):

أَيُّهَــــذا الشَّــــــاكي وَمــــا بِـــكَ داءٌ
كَيـــفَ تَغْـــدُو إِذا غَـــــدَوتَ عَلِــــــــيلا
إِنَّ شَــرَّ الجُــــناةِ في الأَرضِ نَفْـــسٌ
تَتَـــــوَقّى قَبْــــلَ الرَّحـــيلِ الرَّحِـــيلا
وَتَـــرى الشَّــــــوكَ في الـوُرودِ وَتَعْمى
أَن تَـــــرى فَوقَــــها النَّـــدى إِكلِيــــــلا
هُـــــوَ عِــــــبءٌ عَـــلى الحَـــياةِ ثَقِيـلٌ
مَـــن يَظُنُّ الحَيَــــاةَ عِبْـــئاً ثَقِـــيلا
وَالَّــذي نَفْسُـــهُ بِغَـــــيرِ جَمَــــــالٍ
لا يَـــرى في الوُجُـــودِ شَــــــيْئاً جَمِيــلا

فهُو يدعُو كلَّ متشائمٍ في الحياةِ إلى التَّفاؤلِ ما دامَ لا يشْكُو من أيِّ داءٍ، ويَرى أنّ أسوأَ الجُناةِ في الأرضِ هو ذلكَ الإنسانُ الّذي يَخْشى نهايتَه قبلَ أن يحِلَّ بهِ الرّدَى، فهو متشائمُ النَّظرةِ، لا يَرى في الورودِ غيرَ الأشواكِ، وتَعْمى بصيرتُه عن رؤيةِ جمالِ قطراتِ النّدَى فوقَها إكليلاً، وهو عِبءٌ ثقيلٌ على الحياةِ، وليسَتِ الحياةُ على إنسيٍّ عبْئاً ثقيلاً، ومَن تخلُو نفسُه من أيِّ جمالٍ لا يَرى في الحياةِ شيْئاً جميلاً.

وأسوأُ من هَذا ذلكَ الإنسانُ الّذي يَرى العيشَ مُرّاً فيَحْيا شقِيَّاً ويهجرُ كلَّ ملذّاتِ الحياةِ الّتي أنعمَ اللهُ بها على عبادِه ليتمتَّعُوا بها ويعيشُوا في سعادةٍ وهناءٍ:

لَيسَ أَشْقى مِمَّن يَرى العَيشَ مُرّاً
وَيَظُـــــــــنُّ اللَّـــــــــــذَّاتِ فيــــــــــــــــهِ فُضُـــــــــــولا
ويَرى أبو ماضي أنَّ أحْكمَ البشرِ هُم أولئكَ الّذين فهِمُوا أسرارَ الحياةِ وعرفُوا غاياتِها، فأحسنُوا العيشَ بنعيمِها، فلم يبخلُوا ولم يُسرفُوا على أنفُسِهم، وإنّما تمتَّعُوا بما حباهُمُ اللهُ من نعمٍ، دونَ طمعٍ أو جشعٍ يُورثانِ مزيداً من الشّقاءِ والتَّعاسةِ، فلا تعرفُ نفوسُهم حدّاً للامتلاءِ، ولا تقنعُ ذواتُهم بما في أيديْهم، فتنقلِبُ نِعمُهم إلى نِقَمٍ فيعيشُون تُعسَاءَ:

أَحكَـمُ النَّـــــــــــاسِ في الحَــــــــــــــياةِ أُنــاسٌ
عَلَّلُـــــــــوهَــــــــــــــــــا فَأَحسَــــــــنُوا التَّــــعْـــلِــــيلا

ولهَذا فهُو يدعُو كلَّ إنسانٍ إلى أنْ يتمتَّعَ بالطَّبيعةِ المجَّانيَّةِ الّتي أودعَ فيها اللهُ عزَّ وجلَّ كثيراً من النِّعمِ المجّانيّةِ، ومن تلكَ النِّعمِ جمالُ الصَّباحِ، فهُو يدعُو الإنسانَ إلى الاستِمتاعِ بهِ وعدمِ الخوفِ من زوالِه قبلَ أوانِه:

فَتَمَتَّـــع بِالصُــــــــــبحِ ما دُمْـــــــــتَ فــــــــــــيهِ
لا تَخَــــفْ أَن يَــــــــزولَ حَـــــــــتّى يَــــــــــــــزُولا

ثمَّ يدعُو إنسانَه إذا ما حلَّ بهِ همٌّ إلى عدمِ التَّفكيرِ فيهِ؛ لأنّ التَّفكيرَ في الهمومِ يَزيدُها هموماً، فعلَى الإنسانِ أن ينْسى ما حلَّ به، والنِّسيانُ نعمةٌ عظيمةٌ حبَاها اللهُ مخلوقاتِه، ولولاهَا تحوَّلَتِ الحياةُ إلى جحيمٍ لا يُطاقُ:

وَإِذا مـــا أَظَــــــــلَّ رَأسَـــكَ هَـــــــــــــــــمٌّ
قَصِّرِ البَحــــــــثَ فــــــــــيهِ كَيْــــلَا يَطُـــــولا

ويدعُو أبو ماضي الإنسانَ إلى تعلُّمِ فنِّ الحياةِ من الطُّيورِ الّتي أدركَتْ أسرارَ جمالِ الطّبيعةِ والحياةِ، فمِن العارِ على الإنسانِ ألّا يتعلّمَ مِنها سبلَ العيشِ الهنيءِ وأنْ يظلَّ جهُولا، فهي تتمتَّعُ بالحقلِ، وهو ملكُ غيرِها منَ البشرِ، وقد جعلَتْه مسرحاً تَلهُو فيهِ، واتَّخذَتُه لها مَقيلاً تَأْوي إليهِ في قيلُولتِها وسُباتِها:

أَدرَكَــــــــتْ كُنْهَـــــها طُيُـــــــــــــــــــــورُ الـــــرَّوابي
فَمِـــــــنَ العــــــــــــــارِ أَن تَظَـــــــــلَّ جَهُــــــــــــــــولا
ما تَراهَــــــــــا وَالحَقــــلُ مِلــكُ سِـــــوَاها
تَخِـــــــذَتْ فــــــــــيهِ مَسْــــــــــــــرَحاً وَمَقِــــــــيلَا

وتلكَ الطُّيورُ لم تخشَ على حياتِها، فهي تتغَنَّى وفي السَّماءِ صقرٌ يتربَّصُ بها، وفي الأرضِ يُلاحقُها الصَّيّادونَ من كلِّ حدبٍ وصَوبٍ، فلا تُبالي بمَصيرِها، وهي تُنشِدَ أجملَ أناشيدِها، ولم تبلُغْ من العمرِ إلّا قليلاً، فهلْ تَبْكي خشيةَ أن تفقدَ عمرَها، وقد تَحْيا عُمراً مديداً؟!:

تَتَغَنّى وَالصَّقــــــرُ قَـــــــد مَلَكَ الجَـــــــــوَّ
عَلَــــــــــيها وَالصَّـــــــــــــــــائِدونَ السَّـــــــــــــبيــلا
تَتَــــــــغَنّى وَعُمـــــــــــرُها بَعــــــــــضُ عـــــــــــــــــــامٍ
أَفَتَـــــــــبْكي وَقَــــــــــــد تَعيــــــشُ طَـــــــــــويـــــــــــلَا

فانظُرْ إليها كيفَ تَسْعى وهيَ تلتقِطُ الحَبَّ فوقَ الثّرى، وتتهادَى بينَ الغُصونِ بأجنحتِها حتَّى تُحرِّكَها إذا ما حلَّ بها سكُونٌ، وحينَما تأذنُ الشّمسُ بالغروبِ وتودِّعُ الرّوابيَ بأشعَّتِها الذَّهبيَّةِ، تقِفُ تلكَ الطُّيورُ مناجيةً الأصيلَ، وقد ملأَتْ نفوسَها بالجمالِ والعيشِ الرَّغيدِ:

وَهيَ طَــــــــــوراً عَـــــــلى الثَرى واقِعــــاتٌ
تَلقُطُ الحَـــــــــبَّ أَو تَجُـــــــــــــــرُّ الذُّيـــــــــولا
كُلَّمــــــــا أَمسَـــكَ الغُصـــــــــونَ سُكونٌ
صَفَّقَــــــــت لِلغُصـــــــــونِ حَتّى تَمِـــــــيلَا
فَـــإذا ذَهَّـــــــــــبَ الأَصــــــــيلُ الــــــــــــــرَّوابي
وَقَفَتْ فَوقَـــــــــها تُنَــــــــــــاجي الأَصِـــــــيْلا

فتَعلَّمْ أيُّها الإنسانُ من تلكَ الطُّيورِ فنَّ العيشِ الجميلِ بحُبِّ الطَّبيعةِ، فهي تلْهُو ولا تستسلِمُ للهجيرِ، فتَبحثُ بكلِّ همّةٍ عاليةٍ عن ظلٍّ ظليلٍ يَقِيها شدّةَ الحَرِّ، وتَجنَّبِ القالَ والقِيلَ منَ النّاسِ حولَكَ، ولا تُبالِ بما يقُولونَ:
فَاطلُبِ اللَّهوَ مِثلَما تَطلُبُ الأَطْــ ـــــ
يارُ عِنـــــــــــــدَ الهَجـــــــــــيرَ ظِــــــــــــــــلّاً ظَلــــــــيلا
وَتَعَلَّـــــــــــــمْ حُـــــــــــــبَّ الطَّبيــــــــــعَةِ مِنهـــــــــــــــا
وَاِتـــــــــرُكِ القَــــــــــــالَ لِلــــــــــوَرى وَالقِيْلا

وعليكَ أيُّها الإنسانُ أن تُدركَ بأنّكَ منَ الطّينِ ونهايتُكَ إلى التُّرابِ، سواءً كنتَ من علِيَّةِ القومِ أم كنتَ عبْداً فقيراً، فلا خلُودَ لمخلوقٍ في الحياةِ، وليسَ بمقدورِ أحدٍ أن يطلبَ الخلودَ المستحيلَ، ولنا في النُّجومِ خيرُ دليلٍ، فهي إلى أُفولٍ، ولكنَّ عيبَها أنْ تَخْشى الأفولَ، وها هيَ الورودُ أمامَ عينيكَ دليلٌ آخرُ على نهايتِها بالذُّبولِ، فلا تخْشَ المنيَّةَ واقتحِمْها، واطلبِ الموتَ توهَبْ لكَ الحياةُ، ولا تنسَ نصيبَكَ من التَّمتُّعِ بظلالِها ما دمْتَ حيَّاً قبلَ أن تزولَ، ولا تستنزِفْ مآقيكَ بكاءً على حياةٍ نهايتُها الذُّبولُ، فهلْ يَشْفي البكاءُ غلِيلاً؟!:

أَنْــــــــــــــــــــــتَ لِــــــــــلأَرضِ أَوَّلاً وَأَخـــــــــــــــــــــــــــــــــيراً
كُنْـــــــتَ مَلـــــكاً أَو كُنْـــــتَ عَبــداً ذَليلا
لا خُلــــــــودٌ تَحــــــــــــــتَ السَــــــــــــماءِ لِـــــحَيٍّ
فَلِـــــمــــــــــاذا تُــــــــــــــــــــــــراوِدُ المُســـــــــــــــتَحِـــيلا
كُلُّ نَجـــــــــــــــــمٍ إِلى الأُفُــــــــــــــــــــــــــولِ وَلَكِــــنْ
آفَـــــــــــةُ النَّجـــــــــمِ أَن يَخَـــــافَ الأُفُولا
غـــــــــايَةُ الـــــــــــوَردِ في الرِّياضِ ذُبُـــــولٌ
كُنْ حَكِيماً وَاِسبِقْ إِلَيـــهِ الذُّبُولا
وَإِذا مـــــــا وَجَــــــــدْتَ في الأَرضِ ظِــــــلّاً
فَتَــــــــــــفَيَّء بِــــــــــــــــــــــــــــهِ إِلى أَنْ يَحُـــــــــــــــــــــولا
قُــــــــــل لِقَــــــــــــــومٍ يَســــــــــتَنزِفُونَ المَـــــــآقي
هَـــــــــل شُفِيْتُم مَــــــــــــعَ البُكاءِ غَلِـــــيلا

ثمَّ يدعُو الشَّاعرُ أهلَ العقولِ إلى راحةِ عقولِهم في التَّفكيرِ بالحياةِ ونهايتِها، لأنّ غايةَ الإنسانِ أنْ يعيشَ في هناءٍ ولم يُخلَقْ ليَشْقى؛ ولأنَّ المبالغةَ في التَّفكيرِ بهمومِ الحياةِ تُنذِرُ بالشَّقاءِ والهلاكِ، فعليكَ أيُّها الإنسانُ الّذي تَشْكو منَ الحياةِ، وأنتَ تملكُ خيرَ نعَمِها منَ الصِّحّةِ ولا تُعاني سقَماً، أنْ تنظرَ إلى الحياةِ بعينِ الرِّضا والجمالِ؛ كي تَراهَا جميلةً، فكُنْ جميلاً ترَ الوجُودَ جميلاً.. وتفاءَلْ بالخيرِ تجِدْهُ.. هذا ديدَنُ الأيّامِ ونامُوسُ الحياةِ:

مـــا أَتَيْـــــــــنا إِلى الحَيَــــــــــــاةِ لِنَشْــــــــــــــقَى
فَأَريحُوا أَهــــــــلَ العُقُولِ العُقُولا
كُلُّ مَــــــــــنْ يَجمَــــــعُ الهُمـــــــــومَ عَلَـــــيهِ
أَخَـــــــــــذَتهُ الهُمـــــــــــــــومُ أَخْــــــــذاً وَبيلا
أَيُّهَــــــــــــــــذا الشَّـــــــــــاكي وَمــــــــــا بِـــــكَ داءٌ
كُنْ جَميلاً تَــــــــــرَ الوُجـــــــــودَ جَميلا

ختاماً الحياةُ جميلةٌ تدعُونا إلى التَّفاؤلِ، وليسَتْ سِجناً مُظلماً إلّا أمامَ النُّفوسِ المتشائِمةِ الّتي حرَمَها اللهُ نعمةَ البصرِ والبصيرةِ، وأمامَ تلكَ النُّفوسِ الّتي لا يُشبِعُ رغباتِها إلّا حَفْنةٌ من التُّرابِ تُواري سوءَاتِهم وتخلِّصُ البشريَّةَ من أطماعِهم وجرائمِهم وبشاعةِ نَهمِهم بملذَّاتِ الحياةِ دونَ مبالاةٍ بنهايتِهِم في الحِسابِ والعِقابِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى