عمر بن الخطاب
يدور موضوع هذا البحث حول بناء الشخصية الرئيسية في رواية «عمر يظهر في القدس» للروائي «نجيب الكيلاني».
وقد طمحت هذه الدراسة إلى مقاربة عنصر مهم من عناصر الخطاب الروائي، وهو بناء الشخصية الروائية، والكشف عن كيفية تشكيلها على المستويات الفنية والفكرية المتعددة، وتأثير هذا التشكيل في الأداء الوظيفي للشخصية. وقد اقتضت طبيعة الدراسة أن تحتكم إلى المنهج الوصفي التحليلي، بقصد رصد أساليب الكاتب في تقديم الشخصيات، والوقوف على أدوات بنائها وتصنيفها، وبيان التقانات التي وظفها في بناء شخصياته، وإبراز الملامح والأبعاد الفنية التي اصطبغت بها تلك الشخصيات.
أقام الكاتب بناء روايته على أساس فكرة طريفة، تتمثل في ظهور الخليفة «عمر بن الخطاب» المفاجئ في مدينة القدس بعد نكسة عام 1967م، لتبدأ الأحداث، وهو بصحبة شخصية الراوي وهو شاب فدائي من أبناء القدس ينتمي إلى إحدى المنظمات الفلسطينية المقاومة ضد اليهود.
هيمنت شخصيات الرواية على الأحداث؛ الأمر الذي جعل منها العنصر الأقوى، إذا ما قورنت ببقية العناصر الروائية الأخرى، وقد تبدّى هذا العنصر الفني بجلاء من خلال عتبة العنوان: «عمر يظهر في القدس».
اتخذت الرواية من مدينة «القدس» المحتلة فضاءً روائياً، أسهم في تشكيل أبعاد الشخصيات، ووعيها، وأفكارها، وطموحاتها، إنها أرض الأنبياء، لكنها اليوم استبدلت بالأنبياء قتلة الأنبياء والأبرياء. إنها الأرض التي كانت طاهرة، ثم دنسها الاحتلال.
إن اختيار الكاتب لمدينة «القدس» التي كانت حاضرة في سطور الرواية بكثافة؛ مسرحاً لأحداث الرواية يعطي دلالاتٍ رحبةً وإيماءاتٍ ثرةً، فالقدس تجسيد حي للهوية وللتحدي وللمجابهة، فيها يلتقي الماضي بالحاضر، والعزة بالانكسار، والحضارة بالهوان، وهي بؤرةُ الأحداث، ومجالُ حركة الشخوص والأبطال.
ثمة شخصيتان محوريتان تهيمنان على بناء الرواية هما: شخصية الخليفة «عمر بن الخطاب» –رضي الله عنه- فاتح القدس الأول، وكاتب عهد الأمان لها ولكنائسها ورهبانها قبل أربعة عشر قرناً. وشخصية «الراوي»، وقد جسدت الشخصيتان معاً أزمة الإنسان الفلسطيني في ظل الاحتلال، وكان لهما دور مؤثر في سير أحداث الرواية ومجرياتها.
وإلى جانب هاتين الشخصيتين برزت شخصياتٌ ثانوية أدت دوراً مسانداً للشخصيتين المحوريتين، ونهضت بمهمة إلقاء الضوء على جوانبهما المتعددة.
أثار استحضار شخصية الخليفة « عمر بن الخطاب» في الرواية عدداً من القضايا الفنية منها: كيف يمكن استدعاء شخصية تاريخية إلى الواقع المعاصر؟
ومن أجل تخطي هذه القضايا الموضوعية، لذا لجأ الكاتب إلى حيلة فنية تجلب الماضي، وتستعيده عبر دالة فنية رائعة وهي الحلم أو الرؤيا المنامية، ولعل الهدف من وراء توظيف تقنية "الحلم" هو التخفيف من حدّة استغراب المتلقي ودهشته من جهة، وجعل شخصية عمر شخصية مقنعة فنياً من جهة أخرى.
حاول الكاتب في بناء شخصية عمر الخليفة ربط الحاضر المظلم بالماضي، الوضيء؛ ليبرز المفارقة الحادة بين عزة المسلم الأول كما هي عند عمر - رضي الله عنه ـ وبين هوان المسلمين وذلهم في العصر الحاضر كما هو حالهم اليوم في القدس، يقول الراوي مخاطباًً الخليفة عمر:
– يا أمير المؤمنين.. إن بالقدس اليوم وباء خطيراً
هتف في إشفاق:
– «الطاعون؟؟»
– الطاعون يقضي على عدد من الناس .. لكن الوباء الآن يقضي على شعب .. وتاريخ .. وقيم كبرى .. في القدس اليوم الإسرائيليون آفة العصر وحاملو ألوية الغدر والحقد والدمار..
ومن أجل أن استكمال بناء الشخصية الرئيسية، عمد الكاتب إلى رسم الأبعاد الفنية لتلك الشخصيات، وهي تتمثل في ثلاثة: الأبعاد الجسمانية والنفسية والفكرية.
اتكأ الكاتب في تشكيل شخصية الخليفة عمر على إبراز السمات الإسلامية في ملامحها. وقد تبدّى ذلك جلياً في النص الذي يحكيه الراوي في أول لقاء له بعمر- رضي الله عنه - يقول:
... نظرت خلفي، فإذا برجل مديد القامة، مشرق الوجه، مشرب بالحمرة، تضفي عليه لحيته البيضاء وقاراً زائداً، وكان أروع ما فيه عينيه الصافيتين الواسعتين اللتين تفيضان صفاء ويقيناً وأمناً:
عني الكاتب أيضاً باستثمار شخصية «الخليفة"عمر»، وما يحيط بها من أحداث استثماراً إسقاطياً واعياً، فجاءت شخصيته رمزاً للأنا الحضاري لأمة في أوج ألْقِها، ورمزاً مفقوداً تحتاجه بجميع طبقاتها، ومثالاً صادقاً للمسلم الحقيقي بوضوحه وإشراقه، وبإيمانه الصلب.. بوعيه..بإخلاصه، وصفائه ..بقوته وجرأته .. باستقامته وعدله.. بوطنيته وتضحيته. وقد وصفه الراوي بقوله:
«تصدر الكلمات من بين شفتيه قوية رصينة، تفوح منها رائحة الصدق والجلال.. بريئة من الشك والريبة .. خالصة من كل بهتان».
ولم يقف الكاتب في رسم ملامح شخصية عمر الخليفة عند وصف الشخصيات المسلمة له، وإنما نقل ما اعترف به أحد قساوسة كنيسة القيامة عن سمات شخصية الخليفة «عمر» حين قال في نبرة تنم على نظرة متزنة:
«أنا أحترم عمر، ولا أشك في نظافته، إنني لا أتفق معه في العقيدة، لكنه إنسان كبير، رفض طلب البطريق حينما كان بالكنيسة وقت الأذان .. أبى أن يصلي بها احتراماً لمشاعرنا».
أراد الكاتب أيضاً محاولة اختراق الكيان اليهودي فكرياً بعد أن عجزنا عن اختراقه عسكرياً؛ لذا كثف محاورة الخليفة عمر لكثير من الشباب اليهودي، ومجادلتهم في أحقيتهم بالقدس، ومصدر عقديتهم وآرائهم، ونجح في ذلك، فقد أعلنت فتاة تخليها عن اليهودية ودخلت في الإسلام.
أما الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية، فهي شخصية الفدائي «الراوي»: الذي تجلى له عمر، وأغفل المؤلف اسمه عامدًا؛ ليجعله رمزاً للحركة الفدائيــة العاملة في السر، والساعية إلى الجنة لا إلى الشهرة، وقد كان لدى هذا الشاب رغبة في الالتقاء بـالخليفة «عمر»؛ بوصفه المنقذ مما يعانيه من ألم احتلال الصهاينة لمدينته القدس.
مثل الراوي المشارك العليم عنصراً مهماً في بناء الرواية الفني، وشارك بصورة جلية في أحداث الرواية، فهو موجود في كل مكان، فمنذ الكلمة الأولى في الرواية يفرض الراوي المشارك وجوده، ويدخل في نسيج الرواية مسوغاً لنفسه هذا الوجود، مستخدماً في ذلك مقدمة لحوار داخلي يجريه مع أمه، يبنيه بناء يوهم بواقعيته، يعترف لها بما ينتابه من مشاعر القلق والذل وما يقاسيه من معاناة وألم؛ بسبب ما حمل بوطنه من احتلال صهيوني، وما ألحقه بأبناء وطنه من مهانة وإذلال
وقد ربط الكاتب بين أحداث الرواية وشخصياتها بشكل جلي، ذلك أن أبرز أحداث الرواية هو تجلي الفاروق عمر للراوي في ظاهر القدس على نحو مفاجئ، على نحو يشبه المعجزة أو الكرامة، وَدخوله المدينة السبية بدون بطاقة هوية، وسجنه مع الراوي الفدائي إثر انفجار اتُّهِما معًا بتدبيره، وتبرئتهما بعد ذلك، وتعرضه لما يتعرض له كل عربي في الأرض المحتلة من عجرفة الاحتلال، وثورته على الذل بين قوم ألفوا الذل، ونسوا الأنفة.
وتمضي الرواية تسطِّر جهاد عمر وحزنه على ما أصاب المسلمين من تمزق وتشرذم سياسي وفكري، وتصديه لذلك، وأخذ يتلمس بيده مكمن الخلل:
«الآن عرفت سبب انتصار اليهود عليكم، ونشرهم الفجور بين ظهرانيكم، الخوف يلد الرذيلة، والهزيمة تمسخ ضعفاء الإيمان... إن من يتعود التقاط الفتات من موائد الأغنياء تسحره كلماتهم وفكرهم وسلوكهم، ويحاول أن يقلدهم ، وفي التقليد الأعمى فناء العقل والروح. هكذا يتحول السادة إلى عبيد».
وأمام الدور الكبير للخليفة الراشد يحاول اليهود التخلص منه ولكنهم يفشلون ويصر أتباعه على إخراجه من القدس حفاظاً على حياته لكنه يرفض ذلك لأنه لم يتم إبلاغ رسالته قائلاً لهم : «المهم أن تنطلق الكلمات ... أن تعيش في فكر الناس ووجدانهم، وأن يحملوها للآخرين» لكن الراوي وأتباع الخليفة يصرون على إخراجه، فيرسمون خطة متقنة لتهريبه، فيخرج من القدس في وقت يحيك اليهود خطة ماكرة لقتله، فيصبح الناس فلا يجدون للخليفة أي أثر.
وهكذا يدرك المتلقي أن ظهوره المفاجئ واختفاؤه المفاجئ لم يكن إلا تعبيراً عن الإعجاز الذي اتسمت به شخصية عمر في حياتها، ورمزاً للأمنية الصعبة التحقق التي أراد الكاتب أن تتحقق ببعث عمر.
نتائج الدراسة:
"من كل ما سبق يتبين للقارئ ما يأتي:
– إن رواية «عمر يظهر في القدس» تعد إحدى روايات الاستدعاء التاريخي التي تتكئ على استدعاء التاريخ كأداة من أدوات الإسقاط على قضايا معاصرة.
– كان لمدينة القدس حضورها الواسع في الرواية، فهي تلك الشخصية التى استثمرها المؤلف بدرجة كافية، فتحت أمامه طاقات هائلة من الإبداع الفني، وقد تمكن من أن يستغل المدنية المقدسة التي وقعت سبيّة في قبضة المحتلين كشكل جماعي تنطلق فيها المقاومة، وكرمز جماهيري يفرض وجوده على كل مدينة محتلة.
– اعتمد الكاتب في بناء الشخصية الرئيسية على تداخل الشخصيات وتفاعلها، وعلى ما بينها من تماثل وتناقض جعلها أقرب إلى الحقيقة، كما جعلها تؤثر في بعضها بعضاً، فتتطور تبعاً لهذه التفاعلات التى تشكل مجرى الأحداث التي تدور حولها الرواية.
– لم يقف المؤلف في تصوير شخصيات الرواية الرئيسية عند رسم أبعادها الظاهرة وسلوكها الخارجي، وإنما قام بتحليل الشخصية، والكشف عن أعماقها، والغوص داخلها، وتحسس عقلها الباطني؛ الأمر الذي خلق لوناً من التواؤم والتوازن والتضافر بين العالمين: الخارجي والداخلي للشخصية، وتتبع أيضاً تطور الشخصية وكشف عن الملامح النفسية والأبعاد الفكرية والاجتماعية.
– أدرك الروائي فلسفة الفن الروائي، فعمل على تحقيق ذلك من خلال توظيفه عناصر عدة وتقنيات فنية حسنة وظفها بصورة مقنعة فى رسم أبعاد الشخصيات وملامحها، فجاءت ملبية للسياق الداخلي الخاص بحركة الشخصيات أو المواقف التي مرت بها.
– استطاع الكاتب أن يصنع لوناً من التلاحم بين عناصر الرواية المختلفة من: بنية وأحداث ولغة وفضاء روائي والشخصيات، بحيث بدت متآزرة متعاونة، وفي ضوء ذلك التلاحم تجسدت ملامح الشخصيات الرئيسية وبرزت أبعادها المختلفة.
– حاول الكاتب أن يضمن لشخصياته كثيراً من عناصر النجاح الفني المطلوب للشخصيات الرئيسية سواء الثابتة منها أم النامية والقريبة إلى النموذج الإنساني للشخصية الروائية، حيث لم تبدُ شخصياته الثابتة مسطحة أو بسيطة تتصف بصفات واحدة طول الرواية، وإنما اجتهد فى رسم جوابها وسماتها بكل مزاياها: ضعفها وقوتها.
– تحولت الشخصية الرئيسية في بعض مواقف الرواية إلى شخصية خطيب محفل أو منبر خطابي، تقدم كل شيء، وتعرّف المتلقي بكل شيء، ولا تترك له مساحةً من الاكتشاف، وهذه النبرة الخطابية المترعة بالأهمية الموضوعية على صدقها ووهجها، لا مكان لها في العمل الروائي القائم على التركيز والإيحاء والبعد عن التقرير، مع إمكانية الجمع بين الإيحاء والوضوح.
ملخص بحث قدم إلى: المؤتمر العلمي الخامس لكلية الآداب بعنوان: «القدس تاريخاً وثقافة» الذي عقد بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية- بغزة بتاريخ 7-8 مايو2011