في سوق الخلفاوي
عندما انتقلنا للسكنى فى حدائق شبرا أمام "جزيرة الوراق" أصبحت أذهب الى سوق "الخلفاوي" لشراء الفواكه والخضروات . فهى إحدى وسائلى لكسر العزلة التى يعانى منها من يقضون الساعات الطويلة فى القراءة والكتابة والتأمل بعيدا عن الناس، فى التعامل مع الرموز، والأساطير ، والخيالات بعيدا عن التدفق اليومى العادى للحياة.
أجتاز الحوارى التى تصل بين كورنيش النيل والأحياء "الجوانية" لحى شبرا ، شاقاً طريقى بين صفوف الورش الصغيرة ، ومحلات البقالة ، وبائعى قطع الغيار ، والجالسين على المقاهى يبتلعون كرسيا من الدخان ، وكوبا من الشاى ، بين أطفال المدارس ، والنساء العجائز يحملن أكياس الخبز والطعام تئن من تحتها مفاصل السيقان تآكلت مع الأيام، والموظفين ، والعاطلين ، والعمال. أتأمل شجرة خضراء مازالت ترتفع وسط كتل الأسمنت والطوب البائسة الخرساء . أعود الى حجمى الطبيعى فى مدينة أصبحت كالوحش يعيش أغلب سكانها على هامش الحياة . أتساءل كيف يمكن تغيير كل هذا والذين يحلمون بالتغيير، ويتحدثون عنه فى الصحف والندوات مازالوا بعيدين عن هؤلاء . أرى نفسى جالسا فى اجتماع نظمته ثلاثة هيئات تعمل فى المجال السياسى والاجتماعى العام . فى صالة مستديرة ضخمة تمتد حولها منضدة دائرية ، ومقاعد وثيرة صُنعت لإراحة الأجسام . عندما أرفع رأسى ألمح سقفها يرتفع مثل القبة فى قصر من قصور الأمراء ، ونجفة كبيرة تتلألأ أضواؤها الذهبية على الوجوه ، وعلى صلعة أحد مندوبى الأحزاب جاء مثلى ليدلى بدلوه فى "المكلمة" ، فى النقاش الذى كان عنوانه "مستقبل اليسار" ، وليحذر الحاضرين من التفكير فى تكوين أحزاب جديدة .
دار النقاش حول كل شىء ماعدا التحركات الاجتماعية التى تزحف فى كل ركن من أركان البلاد من الإسكندرية حتى أسوان فأدركت أن التاريخ قرر أن يأتى الخلاص من تحرك أناس من غير المجتمعين فى هذه الندوة ، وأنه على من لديهم الاستعداد أن يبحثوا عن هذه الحركات ليقدموا لها ما تبقى لديهم من قدرات .
عندما جاء دورى للمساهمة فى النقاش تساءلت كيف غاب الحديث عن دور اليسار فى الارتباط بالحركة الشعبية العالمية ضد عولمة الرأسمالية النيوليبرالية بينما تعانى بلادنا من حصارها ، من وقوعها فى فخ "السوق الحرة" ولا تستطيع الفكاك منها إلا بإيجاد رباط ، وتضامن بين الحركة الشعبية المحلية وحركة الشعوب العالمية . وعن غياب أى حديث عن وضع النساء فى المجتمع والتهميش المتزايد الذى يعانين منه ، فى الحياة ، والعمل ، فى المجتمع ، والسياسة خصوصا بعد استشراء نفوذ الفكر الدينى الرجعى وهزيمة الاتجاهات المتنورة . هذا بينما النساء تشكلن أكثر من نصف المجتمع وعنصرا جوهريا فى تركيبه ونسيجه . إن التقدم أو التأخر مرهون الى حد كبير بمدى تحريرهن من القيود الرجعية المفروضة عليهن ، وبمدى مساهمتهن فى العمل من أجل إحداث تغيير ديموقراطى اجتماعى عميق .
قرأت على وجوه أغلب الحاضرين ذلك الجمود الذى ينم عن الإعراض ، أو ابتسامة صغيرة تعبر عن الإشفاق علىّ أو السخرية منى . ترى متى يلتفت أنصار اليسار فى مصر الى قضايا أصبحت جزءا من الممارسة المعتادة لحركات اليسار الجديدة فى العالم .
الثوم الصينى
فى سوق "الخلفاوى" أعود الى تلقائية ، ودفء الناس العاديين ، الى روائح وألوان الفواكه والخضروات المرصوصة أمامى بعناية . أتعرف على مشاكل الرجال والنساء من خلال الحديث عن معدل ارتفاع الأسعار ، عن نواحى تتعلق بالزراعة واستخدام المبيدات ، والمخصبات والهرمونات التى تسرع بالنمو وتضخم أحجام الثمار. على قيمة الجنيه ومشاكل السوق ، والتوزيع والتجارة . وفى يوم من الأيام وقعت عينى على رؤوس من الثوم كبيرة بيضاء تبدو مختلفة عن الثوم الذى تعودت شراءها . سألت أحد البائعين عنها فأجاب أنها مستوردة من الصين . اندهشت . ثوم من الصين . طار خيالى فوق المحيطات الى ذلك البلد الضخم الذى وصل عدد سكانه الى مليار وثلثمائة ألف أى الى 20% من سكان العالم . أغرق أسواقنا وأسواق العالم بمختلف المنتجات . بالملابس والمنسوجات ، والصنادل و"الشباشب" و"الشرابات" ، بالراديوهات ، والكاسيتات ، والمسجلات ، والحاسبات الألكترونية ، وماكينات الخياطة ، والدراجات الهوائية والبخارية ، ولعب الأطفال والأدوات المنزلية وفى شهر رمضان بالفوانيس التى تغنى "وحوى يا حوى" . فانتشرت هذه السلع الى الحد الذى جعلت الولايات المتحدة وبلاد الاتحاد الأوروبى تهدد بفرض عقوبات اقتصادية على الصين إن لم تُحد من هذا الإغراق وتتفق معهم على نظام للحصص .
ابتعت نصف كيلو من الثوم الصينى وأعطيت جزءا منه لابنتى "منى حلمى" فهى مولعة بأكل الثوم لأنه مطهر ، وينظم حركة الأمعاء فضلا عن أنه يخفض نسبة "الكولسترول" الضار فى الدم للذين يشكون مثلى من ارتفاعه . تقول أن الفراعنة كانوا يعتبرونه عنصرا أساسيا فى طعامهم واهتموا بزراعته وتحدث الكهنة المهتمون بالطب والعلاج عن بعض فوائده الصحية فيما سجلوه فى بردياتهم .
الولايات المتحدة تعتبر الصين القوة الأساسية التى يمكن أن تواجه هيمنتها على العالم. تريد أن تحد من تطورها الاقتصادى لكنها فى الوقت نفسه لا تستطيع أن تحول دون اندفاع شركاتها الكبرى نحو الاستثمار فى هذه البلاد ذات السوق والإمكانيات الهائلة خصوصا إزاء أزمة الركود المزمنة التى يعانى منها النظام الرأسمالى المالى ، فقد حققت الصين إنجازات كبيرة منذ أن قامت بتطبيق السياسات الاقتصادية المرنة للراحل "دنج هسياو بنج" ، وهى سياسات تعتمد على قطاع الدولة فى المجالات الاستراتيجية الهامة للاقتصاد مثل الطاقة ، والصلب ، والآلات الإنتاجية الثقيلة ، والاتصالات وعلى إطلاق يد القطاع الخاص تحت رقابة الدولة وقوانينها ، وتحكمها فى سعر الصرف مقابل الدولار ، وفى إحكام نظام الضرائب . حققت معدلات للنمو تتراوح ما بين 8 – 10 % خلال السنوات التسع الأخيرة . وركزت على إنتاج السلع المطلوبة فى السوق العالمى التى لا تحتاج الى تكنولوجية متقدمة مثل تلك التى تملكها الولايات المتحدة وألمانيا ، وبريطانيا ، وفرنسا . وذلك حتى تتمكن من بناء قاعدة صناعية متينة ، وتحقيق تراكم رأسمالى ومصرفى يسمح لها بالانتقال الى مرحلة تكنولوجية متقدمة بعد عشرين أو ثلاثين سنة حسب تقدير المخططين والخبراء فى هيئاتها المختلفة ، وتدريب الكوادر المناسبة لهذا الانتقال .
فى الوقت نفسه تمكنت الصين من القضاء على الفقر بين 130 مليون من سكانها ، ومن تطبيق نظام ديمقراطى لا مركزى يسمح بتولى السكان المحليين فى عدد كبير من المدن والمقاطعات شئون التخطيط ، والتطوير ، والتنفيذ عن طريق مندوبيهم المنتخبين محليا والذين يخضعون لنظام يسمح بسحب الثقة منهم إذا لم يحققوا آمال الرجال والنساء الذين أعطوا لهم أصواتهم .
مازالت المشاكل التى تواجه هذا البلد الضخم كبيرة ومعقدة . منها وجود 700 مليون من سكان الريف تحسن مستوى معيشتهم وإن كانوا لا يزالون يعيشون بأقل من دولارين فى اليوم . والتفاوت الذى ظهر بين أغنياء السوق الحرة ، والقطاع الخاص الرأسمالى وبين العمال والفلاحين فى أغلب مدن ومقاطعات الصين . ووجود ما يقرب من مائة مليون عاطل يعيشون على الإعانات .
مع ذلك فإن التقدم الذى ما زالت تحرزه هذه البلاد ينبئ بأنها يمكن أن تؤثر على ميزان القوة فى العالم ، وأن تلعب دورا أساسيا فى تحديد مساره . الأمل هو ألا تتطور الصين فى اتجاه يسعى الى قيام امبراطورية جديدة كما حدث فى التاريخ بالنسبة لغيرها من البلاد . وحتى الآن لم تظهر فى نظامها الحاكم مثل هذه الاتجاهات . مع ذلك فالملاحظ أن الشركات المتعددة الجنسية أصبحت تستثمر أموالها فى الصين على نطاق واسع ، وتقيم مصانع ومنشئات اقتصادية خاصة بها ، أو تساهم بها فى مشاريع الرأسمالية الصينية . لكن هذه المصانع والمنشئات لا تنتج أساسا للسوق المحلى وإنما تصدر منتجاتها للخارج مستفيدة من رخص الأيدى العاملة الصينية ومن شبكة البناء التحتية والخدمات المتوفرة فى المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من الصين .
سألت بائع الخضروات الذى أتعامل معه . رجل صعيدى ، أسمر البشرة يلف رأسه بعمة كبيرة ، وتبرق عيناه الصغيرتان بضوء قوى
" رأيك إيه فى الثوم الصينى يا عم عسران ؟ "
" ده شغل المستوردين يا دكتور . عايزين يكسبوا على حسابنا . هو التوم المصرى ماله ؟ دول مغرئنا بحاجات حتئفل بيوتنا . "
" تعرف الصين دى فين يا عم عسران "
" لا والله . أعرف بس إنهم زى الجراد وبيزحفوا علينا . إنما إن جيت للجد هم شاطرين وبيجتهدوا فى شغلهم . "