الخميس ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم جورج سلوم

انفلونزا

هذا الصباح لي.. أنا الديك..

وأنا مَن أمَرَ الشمس لتُشعِل فتيلَها الوضّاء.. وأنا مَن ملأ قنديلَها بالزيت.. وبعد أن اطمأنّ قلبي على مقدار اشتعالها وقدرتها على الإشراق والشروق .. ها أنا أصيح بكم يا نيام أن استفيقوا من رقادكم...

أنا الديك ..

أنا الذي أمرْتُ ليلكم بأن يلفلف عباءته ويرحل

وإن لم تعجِبْني شمسُكمُ اليوم استبدلتُها لكم بأخرى.. أنا الديك

ولو لم يفرّ القمر من وجهي لكنت قتلتُه ..أو على الأقل أجهضتُه من بدرٍ إلى هلال بنقرةٍ من منقاري

أنا الديك

وأصيح في صباحاتكم من عليائي ..هل من مبارز!

هل من مناجز؟..وهل من مناقر وهل من مفاخر؟..

صهٍ صهٍ.. فاصمتوا أيها الديكة جميعاً..

وفعلاً ساد الصمت بعد صياحه ولم يُسمَع إلا صداه ..فعاود الصياح بلحنٍ آخر.. وكرّره حتّى احتقنت أوداجه واحمرّت أحداقه واستطالت رقبته واشرأبّ عُرْفُه وانتصب ذيله وانتفش ريشه.. فغدا أكثر من ديك.. كأنّه ملكٌ على قومٍ من دجاجات وصيصان وكتاكيت.

هيّا واستكان بعد أن عرف أنْ لا ديكَ غيره في المملكة.. واطمأنّ أن لا صوت يعلو فوق صوته..
فاسترخى قليلاً ونفض ريشه المنتصب ليعود إلى خوافيه وانثنى عرفه وتدلى.. ثم نظر إلى الخلف من عليائه.. فرأى دجاجاته مستكيناتٍ فوق بيوضهنّ.. وبعضهنّ – ممّن لا بيض تحتضنه - منتظراتٍ أوامرَه . فأحسّ بالكبرياء فوق ما به من كِبَرْ.. وتأمّل في مفاتنهنّ وخفقات رموشهن.. وانتقى في نفسه واحدةً سيقضي ليلته بين أرياشها .

أنا الديك.. هيا يا قوم وقد ابتدأ نهارُكم

هيا يا فلاح إلى أرضك ..وأنت يا عامل إلى صنعتِك

دوري يا عجلات السيارات في مملكتي.. وقم من نومك أيها الكسلان فأنا صِحْتُ بكم ولن أعيدَ صياحي.

وهكذا كانت النّهارات تنقلب دوريّاً انطلاقاً من صياحه.. والدجاجات تخفضن له جناحَ الذل.. والبيضُ وفيرٌ تحتهنّ.. والصغار يفقسون من البيوض ببساطة وبلا قيصريّات جراحيّة.. ولا يرضعون الحليب من أمّهاتهم.. ويتعلّمون الصياح والنقيق كنشيدٍ وطني!

يردّدونه تحت راية سيّدهم الديك وتحت عرفه الأحمر الذي اعتبروه علماً وطنياً معترفاً به..

والنشيد الوطني بمعنى آخر هو السلام الوطني.. ولو كان صياحاً ديكياً.. وفعلاً كان السلام سائداً في مملكته وضمن الحدود التي يكون صياحه فيها مسموعاً.. واحترم الأعادي تلك الحدود وما تجاوزوها..

فلا ثعلبَ داهم مزرعته

ولا أفعى سرقت بيضة من بيوضه

ولا بومة خطفت صغيراً

ولا صيّادَ أراد منه دجاجة ليطبخها في طنجرته منتوفة الريش

فأنت الديك وحدك!

والكلّ يخاف منكَ ويأتمر بأمرك ..وأنت الديك ولا ابن دجاجةٍ غيرك يكون مولانا.. و لا يَستَدْيِكن أحدٌ على منبرنا إلّاك ولا يستنسرَن طيرٌ في سمانا بوجودك..

وأطلقوا على مملكته لقب قنّ..وكان أفرادها أقناناً!

وضبَطت مدينتنا كلّها ساعاتها على صياحك ..وغدا إيقاعُكَ الدجائجيّ هو المعمول به..
ودستورك بلا دستور لأنه كان موضع خلاف من مادته الأولى.. فمن الذي خُلِق قبلاً البيضة أم الدجاجة في تاريخنا؟.. واختلف الفقهاء من بني دجاج في سجالاتهم المنقارية وحواراتهم النقيقية.. وكيف أصبح ذلك الديك ملكاً علينا؟.. إنه حاكمٌ بأمر الله.. لكن
ألم يولد ذلك الديك من دجاجة؟

أم أن البيضة التي فقس منها كانت ذهبية القشرة؟

لقد كانت ذهبية وحتى الملك شهريار بجلالته اعترف بذلك.. وكان وشهرزادُه معه يرهفان السّمع كلّ صباح لتسكُتَ عن كلامها المُباح!!

وهكذا كان الأمر حتى انقضت ألف ليلة وليلة.

وفي صباح الليلة الثانية بعد الألف.. صاح الديك كالعادة فما أشرقت الشمس.. وكان الجوُّ متجهّماً والضباب لفلف مزرعته فما رأى الديك أبعد من منقاره.. وصاح ثانية وثالثة حتى بحّ صوته.. وما أشرقت شمسه!

وخطر له أن يستبدلها كما وعد.. فقد تكون قد شاخت وباخت وخبا نورها.

لكنّ البردَ كان شديداً ذلك الصباح.. والغيوم تشابكت وتكدّست وما أمطرت بل أثلجت حتى ابيضّ الكون من حوله.. وساد الصقيع
وسمع العطاس كثيراً من دجاجاته وكأنّه ينتقل بينهنّ بالعدوى.. ورأى أنوفهنّ تسيل مخاطاً أشبه بالدموع.. وتثاقلت مشيتهن.. وارتفعت حرارتهن.

التزموا بالقنّ أيها الأقنان ودافعوا عنه

وما فتّ صياحُه المتكرّر في عضدهن..

وما كان صياحه حداءً لهن بل أشبه بالنواح عليهنّ

وما ألهب صياحه العزيمة في دجاجاته.. ولا كان نفيراً في بني دجاج ..بل كبَت واحدة إثر أخرى بلا حراك.. واستشهدت بلا نقيق.

ما هذا؟

واليوم التالي جاء أكثر سوءاً فعجز الديك عن الصياح في الصباح.. واشتدّت موجة البرد.. وما اعتلى منبره إذ أنّ الريح الغربية كانت ثائرة على بني دجاج.

تعال أيها الصياد وخذ دجاجاتي المريضات.. اذبحهن لكن بالطريقة الحلال.. لا أريد في شعبي متقاعساً أو متمارضاً..

وجاء الصياد ورأى ما جرى.. فوضع واقية على أنفه وفمه وجمع الدجاجات النافقات والآيلات منهن للنفوق وملأ بهنّ كيسه.. وانتظر الديك أن يعمل فيهن سكينه – كنافقات ومنافقات - ويذبحهن كقرابين وأضحيات.. فما امتثل الصياد لرغبته.

بل أعطى الكيس بما فيه للنار تأكله.. ودُفنوا جميعاً بمقبرة جماعية.. وكم كان الدخان عظيماً!

وأذاعت الإذاعة الرسمية أنّ مزرعة الديك أصابها الوباء.. وأنّ الديكَ معتكفٌ عن الصياح بعد اليوم..لاوأنه لن يلقي خطاباتٍ صياحيّة من على منبره بعد الآن.. بل بالكاد سيعطس عطساً.. ولذا ضبط القوم ساعاتهم على توقيت غرينتش.. لأنّ الديك أزفت ساعته .

وجاء وفدٌ من منظمة الصحّة الدّجاجية.. وأعلنوا أنّ الوباءَ حلّ بمزرعة الديك بالرّغم من تدجينه المُسبَق.. وأن تلقيحه لدجاجاته ما كان كافياً بل يجب أن يكون اللقاح مصنّعاً في الغرب.. وأعلنوا الحظر على سمائه وأرضه وحتى على بيضه أيضاً.. وحاصروه وحاصروا مزرعته بسياج.. فلا قمح ستأكلون ولا من سيشتري بيضكم أو حتى ريشكم.. كلوا من دودات الأرض وانبشوا ترابكم بحثاً عمّا تقتاتون به.. أو فلتموتوا في الوباء الذي حلّ بكم.

أنا الديك.. وقالها هذه المرة في نفسه وبالكاد همَسَها همْساً.. إذ أن عطاسه كان مراقباً ومحظوراً.

وقال في نفسه..

وأنا بالحقيقة طائرٌ.. ولي جناحان وسأطير من أرضكم التي ترفضني.. وسأطلب اللجوء السياسيّ في بلدٍ آخر

وحاول الطيران ولم تسعفه أجنحته

وعجز منقاره المؤوف عن اختراق الثلج المتكدّس للوصول إلى التربة.. وغاصت أقدامه في وحل الثلوج الرّمادية

أنا الديك.. أين أنتم يا ديَكتي ودجاجاتي.. هيا فلنخترق السور الذي سوّرونا به.. ولو مات بعضنا بالأسلاك الشائكة.. سنعتبره شهيداً

إنها مؤامرة علينا

هيا فلننتظم في طابور ونخترق السياج

وسال المخاط من أنوف جمهوره.. واختلط العطاس بالسّعال.. وتناقص الجمع المحتشد وتعثّر الباقي بجيَف الدجاج النافق

وهكذا جاهد الديك ليستمرّ في خطابه وصياحاته.. حتى سال مخاط أنفه نسغاً من قحف دماغه.. وعطس عطسته الأخيرة وسقط من عليائه.. وكم كان سقوطه مريعاً!

عندما أحرقوه كدجاجة عاديّة.. قالوا لقد مات بالإنفلونزا.. وهي مجرّد وباء.. فخذوا اللقاح من عندنا بشكل مُسبَق قبل الشتاء القادم.. واتّعظوا واعتبروا.

ومن يومها صنعوا لقاحاً لإنفلونزا الدجاج.. وانفلونزا الخنازير.. وجنون البقر. وقالوا احترسوا منها لأنها قد تصيب البشر، والعدوى لا تعرف الحدود المرسومة جغرافياً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى