الثلاثاء ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

ملحمة شيكيتو

(من الحكايات الشعبية المكسيكية) ..بتصرّف!

امتهن الصيد هوىً وهواية وبرع فيه حتى صار لقبه في قبيلته بالصيّاد، وأضيف اللقب إلى اسمه شيكيتو، فصار يُعرف بشيكيتو الصيّاد.

وسكان بلاد الأزتيك ـ أو الهنود الحمر كما سمّاهم الفاتحون ـ كلّهم صيّادون بالرمح الخشبي يزرقونه، أو بالسهم يرشقونه، أو بالنبلة ينفثونها..لكنهم ليسوا كشيكيتو.

وشيكيتو بلغتهم تعني الصّغير، وفعلاً كان قصير القامة والأقصر بين قومه القصار نسبة إلى الفاتحين الغرباء..وفوق قِصَره وقزامته كان محنيّ الظهر حتى لتصل يداه الطويلتان إلى قدميه، أشبه بالقرد شكلاً ورشاقة، لذا كان قومه يصغّرونه أيضاً كما يدلّلون الطفل فصار اسمه شيكيتيتو، ولكن لقب الصيّاد ظلّ لصيقاً به.

ولم يعُدْ شيكيتيتو يوماً من قنصه إلا ظافراً، بأضحيةٍ مدمّاة يجرّها إن كانت كبيرة، أو يتنكّبها لو كانت صغيرة.

ويقول الراوي للقصة ـ وهي هنا زوجته ـ التي كانت تتفاخر بحصيلتها اليومية تدعو إليها عائلتها وعائلته، وتجمع النسوة في حفلِ استقبالٍ مسائيّ للصياد، وتبدأ بعدها عملية إعداد العشاء بكل طقوسها، بدءاً من إضرام النار التي توقدها مع غياب الشمس.

وشيكيتو القصير القامة والنحيل كان شرهاً للطعام ولا يكتنز وزناً، وكأنه يحرق الطعام حرقاً في جسده، وتروي زوجته، أنها تعرفه نهماً ويأكل بضراوة الفهد الصيّاد الذي عذّبته الفريسة قبل أن يوقع بها، ويمزّق مِزَق اللحم عن الذبيحة قبل أن تجفّ دماؤها على نار الشواء، هكذا عهْدُها به مذ عرفته وصارت زوجته.

لكنّه فجأة تغيّر وما عاد أكولاً، وكأنه ارتوى أو شبع، أو لأنه ما صار يصيد إلا البقر الوحشيّ في كل غزوة يغزوها للغابة، فصار لحم البقر معتاداً بفمه يعلكه أو يجترّه، لذا غدا يكتفي بما تناوله له زوجته من لقيمات يمضغها طويلاً، ويستمتع بالتفرّج على نهم الجائعين من قبيلته وكأنهم يأكلون له، ثم يستلقي راضياً كبيراً في نظر قومه مستظلاً برمحه الذكيّ الذي أعطاه الوزن والثقل النوعيّ على أقرانه في القبيلة.

قال الزعيم الذي كان مدعوّاً أيضاً إلى صيدٍ دسم، بقرة وحشية كالعادة كما سمّاها شيكيتيتو:
 يجب أن تصيد نمراً في المرة القادمة وتحضره لي يا شيكيتيتو، لأحنّط لك رأسه وأجعله قناعاً ترتديه فتخرّ لك الظباء وحمر الوحش مرتعدة قبل أن ترديها برمحك، وتغدو بطلاً في القبيلة كما كان غرانديتو ـ وتعني الكبير بلغتهم ـ عندها لن تبقى صغيراً بيننا.

غرانديتو البطل الذي تقنّع برأس الأسد، استعانت به إحدى القبائل لقتال الإسبان الغزاة، وما عدنا سمعنا عنه شيئاً.

واهتمّ الصياد للفكرة، وبدت عليه أمارات الهمّ والخوف التي لم يفهمها أحد إلا زوجته، ثم ابتسم خافضاً رأسه أمام الزعيم وقال:

 إنما أبحث في صيدي عمّا نأكله فقط يا سيّدي.

وكم حاول بعض الشباب تقليد شيكيتو، وكم حاولوا اللحاق به ليعرفوا الوجهة التي يجد فيها صيدَه اليوميّ، أين قطيع الأبقار الوحشية هذا؟.. ولماذا لا نجد إلا أرنباً أو طيراً صعلوكاً؟..

ولماذا نعود بخفيّ حنين مراراً؟..

ولماذا نجبن أمام النمر وأمام الخنزير البرّي ونحن عادة أكثر من صياد في الحلبة الواحدة؟
لكنّ شيكيتو كان يتخفّى في رحلته فلا يعرفون له سبيلاً.

والقبيلة الضائعة في حضن الغابة ما كان ليصل لها الإسبان الفاتحون، لكن أفرادها كانوا يسمعون مدافع الغزاة، ويسمعون من الهاربين إلى الشتات قصصاً مرعبة عن جحافل الجيوش المدرّعة بالحديد والقادمة من عالم الجحيم.

لكن ما لنا ولهم، وتحمينا في غابتنا آلهة الشمس وصلوات زعيمنا وتعاويذه وأصباغه التي يلوّن بها خدودنا وصدورنا، وبخوره الذي يطرد أرواح الشرّ.

يكفينا زاد الأرض من نبات، وقطعاننا من البقر وحيوانات اللاما، وما يجنيه صيادونا من ثمار الغابة، ولله درّ شيكيتو الصيّاد الذي ما غاب إلى صيد إلا وجمع القبيلة في عرسٍ احتفاليّ حول نار الشواء المسائية.

وتقول زوجته..إنّ شيكيتو صار سكوتاً في الفترة الأخيرة وقليل الكلام ومهموماً وساهماً، وما عاد يشارك في طقوس الزعيم وصلواته، وما عاد يتزيّن بالتعاويذ المعهودة قبل الانطلاق للصيد، وما عاد يسمح له بدهن جبينه بالزيت المقدّس، ولا غرس الأرياش في عصابة رأسه، وكأنه فقد إيمانه بديانة الأنكا إله الشمس.

وفي أحد الأيام جاءنا شيكيتو بذبيحة من كائن غريب، وما كنا رأينا حصاناً من قبل، جاءنا يجرّه وأعطاه لنا نحن النسوة لنعدّه للعشاء..كبيراً كان كالثور، وما تساءل الآكلون عن اسم الفريسة، لأنها فوق النار كانت متشابهة الطعم في فم الجياع.

لكنني – وأنا زوجته التي أستقبل صيده كلّ مرّة – فوجئت بقطع الحديد المثبّتة على حوافره بالمسامير!

وكتمت السرّ بعد أن قطعت قوائمه.

ولما خلوت بشيكيتو المهموم والذي جافاه النوم، قلت:

 هذا الكائن كان ملكاً لأنسيّ يا شيكيتو، وظنّي بك سرقته، وقد يكون حيواناً مريضاً لفظه الغزاة، وقد تحلّ علينا لعنتهم.

أعطاني ظهره ولم يجب، فعاودتُ مساءلته:

 والأبقار التي تجلبها لنا، وأنا الوحيدة التي أعرف أنها ليست وحشية، إذ أنها تشبه أبقارنا التي نربيها، ولذلك أخفي عن الجميع رأسها بعد أن أقتطعه وأدفنه، ويلي وكأني بك تسرقها، فتحلّ علينا لعنة آلهتنا أيضاً.

هززته من منكبه وقد تطوّق على نفسه كالحيّة البالعة، للمرة الأولى رأيته كبيراً وأكبر من حجمه المعهود..وماذا تخفي تحتك؟.. وكأنك تحتضن شيئاً تنام عليه؟

تركته، وقمت من حذائه ومضجعه، وأنا أقول بصوت مكتوم:

 ويلي..لو عرف القوم أنّ الصيّاد البطل ليس إلا لصّاً سارقاً.

انتفض شيكيتو وكأنّما أفعى لدغته، وسحب من تحته صفيحة لامعة طويلة مدببة من حديد، أمسكها من مقبضها وهزّها في الهواء، تلك كانت المرة الأولى التي رأيت فيها السيف الإسباني الصقيل الذي سمعت عنه.

وصارت حكاية شيكيتو البطل حكاية شعبية، للمناضل السرّي الذي كان يداهم قلاع الإسبان لوحده ويسرق ماشيتهم ويأتينا بها كصيدٍ من الغابة، وصار الكلّ يحكون كيف كان يصيد أيضاً المقاتلين الإسبان عن ظهر جيادهم لو خرجوا وتطرّفوا من معاقلهم.

اختفى شيكيتو بعد تلك الليلة، يومها أخذ معه السيف ليقاتل به جيشاً جراراً وما عاد بعدها.

هذه الحكاية السرّية احتفظتُ بها، وما بحتُ بسرّي للقوم إلا بعد أن أحاطت بنا الخيل المدجّجة بالحديد، والمدافع التي حولت قريتنا النائمة إلى خراب، وبحت بأسراري كلّها وأنا راحلة نازحة، إلى المكان الذي قيل لنا إنه آمن من الغزاة..وكم تنقّلنا من شتات إلى شتات!

لا يوجد تمثال في ساحاتنا لشيكيتو ولا لشيكيتيتو، وهذه القصة لا يدرّسونها للأولاد في كتب المدرسة، لأنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، وبقيت ملحمة شيكيتو حكاية شعبية كاذبة شفويّة عن لصٍّ قاتل أو مخرّب أو متمرّد، وبقيت في خيال الرّواة الذين لن يسمعهم أحد.

لم أنجب طفلاً من شيكيتو، وإلا لكنت حكيت له تلك الحكاية قبل النوم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى